تقارير و تحقيقات

سايكس بيكو الثانية: مخطط التقسيم في سوريا وإعادة صياغة الهوية


بقلم : مصطفى مهنا / سوريا

لا شيء يحدث على سبيل الصدفة في عالم السياسة وإذا حدث ذلك فاعلم أن ذلك مخطط له كي يظهر وكأن كل شيء قد حدث على سبيل الصدفة هذه المقولة التي تنسب للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت  تُلخّص ببراعة المشهد السوري المعقد الذي يتكشف اليوم  فبعد أكثر من عقد من الحرب بدأت ملامح “سايكس بيكو الثانية” بالتشكّل، حيث تتحول سوريا الموحدة تدريجياً إلى فسيفساء من الكيانات شبه المستقلة مدفوعةً بأجندات داخلية ودعم خارجي واضح ويُعتبر حراك “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الشمال الشرقي وحركة الدروز في السويداء جنوب البلاد  أبرز ملامح هذه النظرية الجديدة للتقسيم في مواجهة المطلب المركزي للحفاظ على وحدة الدولة السورية.

الفوضى الخلّاقة: من ثورة داخلية إلى مخطط دولي

بدأت الثورة السورية مجرد انتفاضة عفوية في وجه نظام مجرم سرعان ما تحوّلت ساحة لمخططات دولية لقد ركبت الموجة قوى إقليمية ودولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وروسيا وإيران حليفة الأسد المخلوع خططت هذه القوى لتقسيم سوريا عبر وضع قواعد عسكرية تحت غطاء الحماية والإسناد مستخدمة الأزمات الدموية لتحقيق أهدافها.

وفي هذا السياق أشار عضو مجلس النواب الأمريكي جو ويلسون في تصريحات لصحيفة “جيروزاليم بوست” إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع يسعى لبناء دولة موحدة لا تدعم الإرهاب وأن أي تفاهم أولي سوري-إسرائيلي قد يمهد لسلام برعاية أمريكية هذا التصريح الذي أوردته الصحيفة في تقرير حديث، يؤكد البُعد الإقليمي والدولي للصراع ويسلط الضوء على فكرة أن الحل السياسي لن ينجح دون وجود سلام مع إسرائيل.

لقد تحوّل المجتمع السوري من بنية مدنية متماسكة إلى بنية مجتمعات قبلية تتأثر بالدين والطائفة والعرق مما جعلها عرضة للتفتيت من الداخل وهذا التفتيت لم يكن عشوائياً بل تم تخطيطه لخدمة مصالح خارجية حيث أصبحت الدولة ساحة لمخططات تستهدف تقسيمها وتفتيتها.

اللاعبون على رقعة الشطرنج السورية

تتوزع القوى الإقليمية والدولية في سوريا بشكل معقد، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه الخاصة على حساب وحدة الدولة:

الولايات المتحدة: تتمركز بشكل أساسي في شمال شرق سوريا، وتحديداً في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). تهدف واشنطن إلى دعم حلفائها الأكراد من جهة ومواجهة النفوذ الإيراني وضمان استمرارية تواجدها الاستراتيجي في المنطقة من جهة أخرى يشمل التواجد الأمريكي قواعد عسكرية في مناطق مثل حقل النفط العمر ومدينة الشدادي  ومدينة الرميلان  بالإضافة إلى قاعدة التنف جنوب البلاد وهي نقطة استراتيجية على الحدود مع العراق والأردن

روسيا: كانت تدعم النظام السوري المخلوع وتتواجد بشكل مكثف في الساحل السوري وقاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، بالإضافة إلى قاعدة طرطوس البحرية سعت موسكو للحفاظ على حليفها الاستراتيجي في المنطقة وتوسيع نفوذها العسكري والسياسي  وتقديم نفسها كقوة عظمى قادرة على إدارة الأزمات الدولية

إيران: كانت تتمركز في مناطق نفوذ النظام السوري  خاصة في دمشق وحلب ودير الزور بالإضافة إلى الميليشيات التابعة لها تهدف طهران إلى إنشاء “هلال شيعي” يربطها بلبنان عبر العراق وسوريا وتوسيع نفوذها في المنطقة ومواجهة التواجد الإسرائيلي والأمريكي

إسرائيل: كانت تقوم إسرائيل بضربات جوية متكررة داخل الأراضي السورية تستهدف بشكل خاص مواقع الميليشيات الإيرانية ومخازن الأسلحة  بهدف منع إيران من ترسيخ وجودها العسكري قرب حدودها  ورغم أن إسرائيل لا تملك قواعد عسكرية رسمية  إلا أن نفوذها الجوي والاستخباراتي يجعلها لاعباً محورياً في الصراع.

ثمن الصراع: الخراب المادي والمعنوي والفتنة المذهبية

إن تدخل القوى الخارجية لم يقتصر على الصراع السياسي والعسكري بل خلف دماراً هائلاً على كافة الأصعد

الخراب المادي والنفسي: لقد تحولت مدن بأكملها مثل حلب وحمص والرقة إلى ركام حيث دمرت البنية التحتية والمنازل والمؤسسات فقدت ملايين الأسر مصادر رزقها ومنازلها وتحول الملايين إلى لاجئين ونازحين هذا الدمار المادي انعكس على الحالة النفسية للشعب السوري الذي يعاني من صدمات نفسية عميقة نتيجة القصف والنزوح والفقدان مما دمرمستقبل الأجيال القادمة

الفتنة وزرع الفرقة: استخدمت القوى الخارجية الطائفية والمذهبية كسلاح لتقسيم المجتمع السوري فبينما كان السوريون يعيشون في تناغم نسبي تم تغذية النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية لزرع الشقاق أصبحت الولاءات ليست للوطن بل للطائفة أو الجماعة المسلحة المدعومة خارجياً هذا الانقسام العميق يهدد النسيج الاجتماعي السوري ويجعل من فكرة الوحدة الوطنية أمراً صعب المنال.

مشروع “الإدارة الذاتية” الكردية: خطوة نحو انفصال وظيفي

منذ تأسيسها أصبحت مايسمى”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) كياناً مستقلاً فعلياً يسيطر على مناطق واسعة شمال شرق البلاد وبناءً على تصريحات صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي فإن مشروعهم يتجاوز مجرد الحكم الذاتي ليلامس حدود الانفصال فوفقاً لتصريحاته التي نقلتها وكالة “رويترز” في تقرير لها أمس يرفض الوفد الكردي المشترك الاندماج مع الحكومة السورية، ويضع شروطاً صارمة للمفاوضات، أبرزها القبول ببقاء “قسد” و”الأسايش” كقوتين عسكريتين موازيتين للجيش السوري

ويُعتبر الإصرار على تغيير الاسم الرسمي للدولة من “الجمهورية العربية السورية” إلى “الجمهورية السورية” مؤشراً واضحاً على الرغبة في إزالة الهوية القومية العربية عن الدولة مما يمهد الطريق لنظام حكم لا مركزي يتواءم مع تطلعاتهم ورغم أن المشروع يُسوَّق على أنه “الأمة الديمقراطية” التي تضم جميع المكونات إلا أن الأطراف الأخرى، وخاصة الحكومة المركزية تنظر إليه كخطوة انفصالية تخدم مصالح إقليمية ودولية وتُضاف إلى ذلك التصريحات التركية حيث نقلت صحيفة “يني شفق” التركية عن الرئيس أردوغان وزعيم حزب الحركة القومية بهجلي تأكيدهما أن “حزب PYD يصر على عدم الاندماج مع إدارة دمشق”، وهو ما يُقرأ كإشارة لعملية عسكرية وشيكة مما يعكس التعقيدات الجيوسياسية التي تحيط بملف “قسد

كيان الدروز المستقل: دعوة للانفصال بدعم إسرائيلي-أمريكي

في منطقة أخرى وتحديداً خاصرة سوريا الجنوبية محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية بدأ حراك آخر يتخذ منحى انفصالياً علنياً فبيان حكمت الهجري الرئيس الروحي للطائفة الدرزية كشف عن مطلب واضح وصريح: “قيام كيان منفصل مستقل يحفظ كرامة الناس ويضمن لهم الأمن والاستقرار تحت مظلة القانون الدولي وهذا المطلب الذي يُنظر إليه على أنه خروج عن الإطار الوطني السوري يتزامن مع دعوات لفك الحصار وفتح المعابر، وهو ما قد يمنح هذا الكيان استقلالية اقتصادية وسياسية عن دمشق

يُعدّ الدعم الخارجي لهذه الحركة نقطة محورية حيث عبر الهجري صراحةً عن امتنانه للولايات المتحدة وإسرائيل والتحالف الأوروبي على مساندتهم وهو ما يفسر توجهات هذا الفصيل في مقابل ما تعتبره دمشق محاولات لتفتيت الدولة هذا الدعم الخارجي يتوافق مع رؤية المبعوث الأمريكي السابق جيمس جيفري الذي أكد أن الأقليات السورية تسعى للحصول على درجة معينة من السيطرة على إدارتها المحلية لتجنب ما يعتبرونه قمعاً واضطهاداً من الحكومة المركزية وفي تقرير حديث نشرته مجلة “فورين بوليسي تم التأكيد على أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعتبران السويداء منطقة استراتيجية يمكن أن تكون نقطة ارتكاز للضغط على النظام السوري وإيران

صراع الإرادات: المركزية في مواجهة اللامركزية

يشكل هذا المشهد حالةً من الصراع بين إرادتين متضادتين رغبة الحكومة المركزية في دمشق والأغلبية السنية والعشائر والوطنيين من الأكراد والدروز في الحفاظ على دولة موحدة لا تتفتت في مواجهة مطالب الأقليات بالحكم الذاتي والسيطرة المحلية هذا الصراع ليس مقتصراً على الدروز وقسد بل يمتد ليشمل العلويين أيضاً الذين يرغبون في تقليص وجود قوات الحكومة المركزية في مناطقهم على غرار الأنظمة الفيدرالية في الولايات المتحدة وألمانيا حسب تصريحات جيفري الأخيرة

وفي ظل هذا التوازن المعقد، يرى جيفري في لقاء مع “نيويورك تايمز” أمس أن الحكومة المركزية لا تزال تملك ورقتي ضغط حاسمتي

الخدمات والبنية التحتية: تسيطر الحكومة على إمدادات الكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية مما يمنحها نفوذاً كبيراً على المناطق الخارجة عن سيطرتها

الشرعية الخارجية: لا تزال الحكومة السورية تحتفظ بعلاقاتها مع المجتمع الدولي وبعض الدول الجارة مما يمنع الاعتراف الرسمي بالمناطق الانفصالية

في المقابل يرى جيفري أن الحل الوسط قد يكمن في “تفاهمات غير رسمية” أو اتفاقيات تمنح الأقليات شعوراً بالسيطرة على مصيرها مع طمأنة الحكومة المركزية بأنه لا انفصال وشيك وهو ما يشير إلى أن الحل قد لا يكون في الانفصال الكامل بل في صياغة جديدة للعلاقة بين المركز والمناطق

إن حالة التقسيم التي تعيشها سوريا اليوم ليست وليدة صدفة بل هي نتيجة تراكمات وتدخلات خارجية هذه المشاريع التي تستمد شرعيتها من دعم دولي واضح تُشكل تهديداً وجودياً لوحدة الدولة السورية وتؤكد أن مسار الأزمة قد دخل مرحلة جديدة مرحلة لا تنتهي إلا بإعادة رسم الخرائط وإعادة تعريف الهويات فسوريا الموحدة اليوم تتجه لتتحول إلى مجموعة من الكيانات المتصارعة في مشهد يعيد إلى الأذهان نظرية “سايكس بيكو” ولكن بنسخة سورية جديدة.

مصطفى_مهنا

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews