تقارير و تحقيقات

العربية في السودان.. حين يسقط القناع عن حياد مزيّف

ممدوح ساتي- السودان -خاص مراسلين

في مشهد لافت، أعلنت السلطات السودانية إلغاء تصريح مراسلة قناة العربية للعمل في الخرطوم.
قرار بدا صادماً للوهلة الأولى، لكنه سرعان ما كشف عن أزمة أعمق بكثير: قناة تُقدّم نفسها كمنبر حرّ، بينما تتحول عملياً إلى أداة سياسية تروّج لخطاب إقليمي محدد. هنا لم يعد السؤال: لماذا ألغت الخرطوم تصريح القناة؟ بل: لماذا استمر المشاهد العربي طويلاً في تقبّل خطابٍ يخلط بين الإعلام والدعاية السياسية؟

ثورات الربيع العربي.. حين تماهت العربية مع الاستبداد

مع اندلاع شرارة الثورات العربية، بدت العربية في موقف عدائي واضح تجاه أي حركة تغيير شعبي. في مصر، مثلاً، ركزت القناة على الفوضى أكثر من المطالب المشروعة، وقدمت خطاباً يُبرر العنف ضد المتظاهرين.
وما إن وقع انقلاب يوليو 2013 حتى فتحت شاشتها لتسويقه كـتصحيح للمسار واستجابة لإرادة الشعب ، في تجاهل فجّ لملايين الأصوات التي طالبت بالديمقراطية.

أما في تونس، فقد تعاملت القناة مع التجربة الديمقراطية باعتبارها مغامرة غير مضمونة، أكثر من كونها قصة نجاح عربية.
وبدلاً من الاحتفاء بالتحول السلمي الفريد، استهلكت شاشاتها في التشكيك، وربطت الإسلام السياسي المعتدل ـ ممثلاً بحركة النهضة ـ بخطاب الإرهاب، لتزرع صورة نمطية تخدم معسكرات إقليمية تعادي أي صعود للإسلام السياسي عبر صناديق الاقتراع.

السودان.. من الثورة إلى الحرب

حين خرج السودانيون في 2019 يهتفون للحرية والكرامة، لم ترَ العربية في المشهد سوى فوضى وشباب متهور.
تجاهلت جذور الغضب الشعبي: الفساد، الفقر، انعدام العدالة. ومع سقوط البشير، لم تتحول القناة إلى صوت الشعب، بل بقيت عينها على مراكز النفوذ.

واليوم، في الحرب الدامية بين الجيش وقوات الدعم السريع، لم يعد الانحياز خفياً.
العربية منحت رواية الدعم السريع مساحة واسعة، وقدمت تصريحات قادته وكأنها مسلمات، بينما قللت من شأن الانتهاكات الموثقة بحق المدنيين. الأخطر أنها لم تكن تنقل فقط رواية الدعم السريع بل الرواية الإماراتية الداعمة له، مجسدةً أجندة سياسية إقليمية على حساب الحقيقة السودانية.
هكذا لم تعد الشاشة مجرد ناقل خبر، بل أداة لشرعنة طرف عسكري متورط في جرائم حرب، عبر توصيف الصراع كـنزاع قبلي أو صراع على السلطة يخلو من الأبعاد الإنسانية والسياسية.

أدوات الدعاية المقنّعة بالصحافة

  1. انتقائية المصادر: تضخيم صوت الرسميين والداعمين، وإقصاء النشطاء والمجتمع المدني.
  2. لغة محمّلة بالأحكام: توصيف الاحتجاجات كـ«شغب» والفعل الشعبي كـ«فوضى»، بينما يُصاغ خطاب السلطة في لغة «استقرار» و«حماية».
  3. التضخيم والتهميش: تضخيم الفوضى والأزمات، وتهميش المطالب الشعبية أو معاناة المدنيين.
  4. تسويق الرواية الإماراتية: من خلال ربط التحولات الديمقراطية بالتهديد والفوضى، وتلميع وكلاء النفوذ في النزاعات المسلحة.

قناة العربية ضد المقاومة الفلسطينية

حتى قضية العرب والمسلمين الأولى ، نجد العربية تركز على نقل معاناة المواطنين في غزة واظهار هذه المأساة والابادة والاجرام الاسرائيلي باعتباره نتيجة للمقاومة ، اذ انها تركز على نقل روايات اليأس وانتقاد المقاومة وتغفل تماما رواية الصمود ، اي أن العربية تنقل الرواية الاسرائيلية بأفضل مما تفعله القنوات الاسرائيلية نفسها !!

بين المهنية والدعاية: أي إعلام نريد؟

قرار إلغاء تصريح «العربية» في السودان ليس حادثاً معزولاً، بل نتيجة طبيعية لانكشاف خط تحريري بات مرتبطاً بأجندات إقليمية أكثر من التزامه بالمهنة. الإعلام لا يفقد مصداقيته فجأة، بل عبر تراكم سنوات من الانحياز والانتقائية، من الثورة المصرية إلى التجربة التونسية وصولاً إلى الحرب السودانية.

ويبقى السؤال الأكبر: هل يقبل المشاهد العربي أن تظل قضاياه رهينة لروايات تُفصّل في أبوظبي أو غيرها، بينما يُقتل المدنيون في الخرطوم وتُشوّه الثورات في القاهرة وتونس؟

دعوة إلى مهنية الإعلام

الإعلام ليس ديكوراً من استوديوهات لامعة، ولا شاشة تبيع الحقيقة بالتجزئة. الإعلام الحقيقي هو الذي يقف مع الضحية، ينقل الحقيقة كاملة، ويُسائل السلطة لا أن يتماهى معها. إن معركة الحرية في العالم العربي لا تُحسم فقط في الشوارع، بل أيضاً على شاشات التلفزيون. وحين يتخلى الإعلام عن مهنيته، يصبح واجبنا كمشاهدين ومواطنين أن نُطالب بها: إعلام للناس، لا للسلطة ولا للدعاية السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews