أخبارتقارير و تحقيقات

يوميات رشا أبو جلال في مدينة غزة.. (الجزء الأول)”معركة الهوية والوجود”

ترجمة حصرية وتحرير: عصام حريرة– مراسلين

بينما تغزو “إسرائيل” المدينة الرئيسية في القطاع، تتمسك عائلة بمنزلها وتخشى أن يندثر قريبًا.. فما زلتُ في غرب مدينة غزة، أشعر بقوات الاحتلال تقترب أكثر فأكثر. قبل قليل، صُدمنا برؤية طائرة مروحية تحلق فوق رؤوسنا.. التقطت بعض الصور ثم أطلقت النار فجأة على منزل مجاور، لمجرد إرهابنا. فرّ النساء والأطفال مذعورين، وكنتُ أطمئنهم قائلةً: “لا تخافوا، إنهم يريدون فقط تخويفنا ودفعنا للفرار جنوبًا، ابقوا أقوياء”، وبالفعل، ظلّوا أقوياء.

الآن، أنا بين مئات الأشخاص الذين ما زلنا في خيامنا، صامدين على أرضنا رافضين الفرار جنوبًا، لكنني لا أعرف كم من الوقت سنصمد.

الساعة الآن السادسة والنصف مساءً.. أصبحت اللحظات التي تسبق غروب الشمس جرس إنذار يُنذر بليلة رعب أخرى.. ما زال الناس من حولنا يتوافدون من شمال وشرق المدينة، هربًا من الاجتياح “الإسرائيلي” المستمر. لم يعد الليل يجلب الهدوء، بل يجلب الخوف؛ فمع حلول الظلام بدأت طائرات الهليكوبتر “الإسرائيلية” تحلق على علوٍ منخفض، تطلق النار علينا لنشر الذعر وإجبارنا على الفرار جنوبًا. ومع ذلك، ما زلنا متشبثين بأرضنا، نقاوم بأجسادنا العارية فقط.

هنا، يحاول الناس إسكات أطفالهم، وكتم شهقاتهم حتى لا تنكشف مواقعهم لهذه الآلات الشيطانية.. لا أحد يجرؤ على إشعال شمعة أو مصباح.. كل شيء يتم في ظلام خانق؛ نحاول تهدئة الأطفال حتى يغلبهم النوم، ونهمس بكلمات أمهات مطمئنات، حتى أنفاسنا نكبحها خوفًا من أن يُكشف أمرها.

30 أغسطس/آب 2025 – عودة الحصار الشامل:

شهد اليوم إقبالًا متزايدًا على الشراء بين سكان مدينة غزة بعد انتشار أنباء تفيد بأن “إسرائيل” قد تمنع مرة أخرى شاحنات الطعام من الدخول، في محاولة لإجبار الناس على النزوح جنوبًا. ومثل كثيرين ممن يرفضون الإخلاء، خرجتُ للتسوق وشراء المواد الغذائية الأساسية، لأننا نتوقع مجاعة أشد وطأة.

يشتري الناس ويخزنون كل ما في وسعهم استعدادًا لأي حملة تجويع جديدة قد تفرضها “إسرائيل”، تتوفر حاليًا العديد من المواد الغذائية في غزة بعد أن سمحت “إسرائيل” بدخول شاحنات الطعام قبل بضعة أسابيع، عقب انتقادات دولية حادة بسبب المجاعة التي تسببت فيها.

ومع ذلك، تقوم عصابات مسلحة بنهب هذه المساعدات ثم تعيد بيعها بأسعار باهظة لا تستطيع معظم العائلات هنا تحملها؛ حيث يُباع كيلو الدقيق بدولارين ونصف، وكان قبل الحرب بدولار واحد، ويُباع كيلو الأرز بخمسة دولارات، وكان قبل الحرب بدولار واحد، وتُباع كيلو المعكرونة بأربعة دولارات وكان قبل الحرب بأقل من دولار ونصف.

لقد فقدت أغلب العائلات في غزة مصادر دخلها بسبب الحرب، ولا تستطيع تحمل هذه الأسعار، ويعيشون على المساعدات الإنسانية المجانية. وقد قمت أمس بتوزيع طرود غذائية؛ حيث اشتريت هذه المواد بالتبرعات التي جمعتها إضافةً إلى مالي الخاص ثم وزعت الطرود على العائلات النازحة والفقيرة.

31 آب/ أغسطس 2025 – روبوتات مُحمّلة بالمتفجرات:

اليوم، استقبلنا مزيدًا من العائلات النازحة حديثًا من شمال مدينة غزة.. جلستُ أستمع إلى قصصهم المفجعة.. أخبروني كيف صمدوا في منازلهم وخيامهم طويلًا، رافضين المغادرة رغم القصف والجوع والخوف.. ظلّوا يرددون: “ولدنا هنا، ونريد أن نموت هنا، لن نتخلى عن أرضنا”.

لكن الجيش “الإسرائيلي” أرسل مركبة مُحمّلة بالمتفجرات يتم التحكم بها عن بُعد إلى حيّهم.. وأوضحوا لي أن هذا الروبوت لا يمنح الناس أكثر من 15 دقيقة للفرار قبل أن ينفجر ويُحوّل كل شيء إلى أنقاض ضمن دائرة نصف قطرها 200متر، ولم يكن أمامهم خيار سوى الفرار.

“لم نستطع أخذ أي شيء معنا.. تركنا ملابسنا وفرشنا وبطانياتنا.. حتى ألعاب أطفالنا لم نستطع إنقاذها”، هكذا قالت إحدى الأمهات النازحات، وهي تحاول تهدئة طفلها الباكي الذي يرتجف من البرد والجوع. وبحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى غرب مدينة غزة، كانوا منهكين، وبعضهم كانوا حفاة، وجوههم مغبرة، وأجسادهم منهكة من الجري. لم يكن لديهم خيام ولا مأوى، وكانوا يقضون الليل في العراء، معرضين للكلاب الضالة ولدغات البعوض.. حاولنا قدر استطاعتنا استيعاب أكبر عدد ممكن من العائلات في الخيام القليلة التي كانت لدينا، لكن معظم العائلات بقيت جالسة على الأرض تنتظر معجزة.

أكتب هذه الكلمات وأنا أشاهد الأطفال ينامون على الحصى، والنساء يغطين أنفسهن بقطع قماش بالية، والرجال يبحثون عن أي شيء قد يكون غطاءً ينامون تحته.

لست مجرد شاهد على ما يحدث، بل أشاركهم خوفهم وجوعهم.. أشاركهم هذا المصير القاسي الذي حوّل منازلنا إلى أنقاض وأجبرنا على النزوح في أرضنا.

إلى كل من يقرأ هذا: هذه ليست مجرد أخبار عابرة، إنها حياتنا اليومية.. نحن بشر، مُقتلعون من ديارنا، نجلس على الحجارة، ننتظر غدًا مجهولًا، نحتاج إلى مأوى، خيام، مراتب، بطانيات.. نحتاج تضامنكم ودعمكم حتى لا يقضي أطفالنا ليلةً قاسيةً أخرى دون مأوى.

1 أيلول/ سبتمبر 2025 – لماذا نُصرّ على البقاء في مدينة غزة؟

اليوم، رأيتُ عائلاتٍ كانت قد فرت إلى الجنوب قبل أيامٍ تعود إلى غرب غزة لنصب خيامها من جديد وسط الأنقاض.. توجهتُ إلى إحدى هذه العائلات وسألت الأب عن سبب عودتهم، فأجاب بصوتٍ مُنهك: “الوضع في الجنوب مكتظٌّ للغاية، لا توجد مساحةٌ فارغة، لا نستطيع حتى إيجاد مكانٍ لنصب خيمة”.

هذا المشهد يتكرر مع مزيد ومزيد من العائلات؛ يعودون رغم الخطر، رغم القصف، رغم الدمار، يعودون لأن الجنوب لم يعد يستوعب مزيدًا من النازحين.

هنا في غرب مدينة غزة، بين الخيام والأنقاض، يدرك الناس أن النزوح جنوبًا ليس حلًا، ليس أمامنا خيارٌ سوى الثبات في مكاننا، لأن إخلاء مدينة غزة هو الخطوة الأولى نحو إجبار أهلها على المنفى في الخارج.

أنا شخصيًا أشارك هذه القناعة.. أشعر أن التمسك بغزة والبقاء فيها، مهما كانت التحديات، هو دفاع عن حقنا في الأرض والحياة.. لم تعد الخيام مجرد ملاجئ هشة، بل أصبحت رموزًا لمقاومة مخطط تفريغ غزة واقتلاعنا من جذورنا.

في خيمتي هنا غرب مدينة غزة، أرى أطفالًا يلعبون بين الأنقاض ونساءً يخبزن الخبز على نار مكشوفة، ورجالًا ينصبون خيامًا جديدة بدلًا من تلك التي مزقتها الرياح.. كل هذا يبعث برسالة واضحة؛ نحن هنا ولن نرحل.

لم يعد البقاء مجرد قرار، بل أصبح معركة هوية ووجود.

3 أيلول/ سبتمبر 2025 – مياه الصرف الصحي والقنابل:

استيقظتُ مع أول خيوط الشمس.. كالعادة بدأتُ أعجن ما تبقى من الدقيق لأخبز بعض الأرغفة، بينما يسارع زوجي لإشعال النار، محاولًا تحضير ما يُبقينا على قيد الحياة في ظل هذا الحصار الطويل.

فجأةً، بدأت المياه الملوثة تغمر الأرض، وتتسلل بسرعة نحو غرفة نومنا، مُلطخةً ملابسنا وما تبقى لدينا من بطانيات.. لقد انفجر خط صرف صحي حيث تضرر جراء الحرب.

سارعنا للاتصال ببلدية مدينة غزة، آملين في مساعدتهم.. لكن الرد كان مُخيبًا للآمال كالعادة.. أعرب موظف قسم الشكاوى عن أسفه وأخبرنا أن البلدية لم تتمكن من إصلاح الخط.. نفد الوقود وتعطلت الآلات والموارد اللازمة غير متوفرة.

تُركنا وحدنا في مواجهة هذا الفيضان البغيض، لكننا اعتدنا منذ زمن طويل على شعور التخلي عنا لمصيرنا.. تجمع سكان المخيم وبدأوا بحفر قناة مؤقتة على جانب الطريق، لتوجيه مياه الصرف الصحي إليها حتى لا تجتاح خيامنا.. تحولت الخيام إلى جزر صغيرة محاطة بالمياه السوداء.

وما أن هدأت الفوضى قليلًا حتى وقعت مأساة أكبر؛ أسقطت طائرات مسيرة “إسرائيلية” قنابل على عيادة الشيخ رضوان الطبية، على بُعد كيلومتر ونصف، وهي العيادة الوحيدة في حي مكتظ بالنازحين.. كان الهدف واضحًا؛ إغلاق العيادة لإجبارنا جميعًا على الفرار جنوبًا.

أكتب مذكراتي اليوم بقلبٍ مثقلٍ بالحزن، لكنني أكتب أيضًا ليعلم العالم أننا لن نستسلم.. إننا نعيش بين مياه الصرف الصحي والقنابل، بين الجوع ولدغات البعوض ولسعات الحشرات.. رغم ذلك ما زلنا نحاول بناء حياة من الرماد والتمسك بإنسانيتنا وسط هذا الحصار الخانق.

4 أيلول/ سبتمبر 2025 – الفأر ” زيكو”:

كانت الليلة أهدأ من سابقتها.. لم يُثقلنا ضجيج الطائرات كعادته، وشعرنا وكأن هدوءًا قد حلّ بخيمتنا.. كنا أنا وزوجي وأولادي نستعد للنوم مع دقات الساعة التاسعة.. كنا منهكين تمامًا بعد يوم طويل في جلب الماء من أماكن بعيدة وشراء الطعام بأسعار أعلى بكثير من المعتاد، وغسل ملابس الأطفال التي سرعان ما تتسخ من الغبار والطين.

اختفت الغسالات من حياتنا منذ أن قطعت “إسرائيل” الكهرباء في بداية الحرب.. ومثل الأمهات الأخريات أغسل كل شيء يدويًا، وأشعر وكأنني أعيش في عصر آخر.

كنت قد اعتدت على النوم بمجرد وضع رأسي على الوسادة من شدة التعب.. لكن فجأة رأيت الأطفال يقفزون من فراشهم مرعوبين.

ظننت أن الجيش “الإسرائيلي” قد وصل إلى حيّنا، لكن ابني زين الدين، (12 عامًا) كسر شكوكي بصراخ: “هناك فأر تسلل إلى خيمتنا!”.

كان هذا آخر ما أتوقعه.. فلا شيء يُرعبني أكثر من الفئران.. حاول زوجي تهدئتنا قائلًا: “إنه مجرد فأر يبحث عن طعام”.

حدّقتُ به بغضب وقلتُ ساخرةً: “هل نُطعمه أيضًا؟”

ابتسم وسأل بلطف، وهو يراقب ذعر الأطفال: “لماذا أنتم خائفون جدًا من فأر؟ هل سيقتلكم؟ إنه مجرد فأر”.

فتّشنا كل زاوية من الخيمة، وقلبنا الأكياس، ورفعنا البطانيات، لكننا لم نجد له أثرًا.. في النهاية استسلمنا للإرهاق واستلقينا، لكن الهدوء لم يدم طويلًا؛ ففي غضون دقائق سمعنا حفيفًا، صرخ الأطفال مرة أخرى. عندها ابتكر زوجي حيلة لتغيير الجو؛ فجلس معهم وقال مبتسمًا: “إنه مجرد فأر صغير يبحث عن مكان للنوم، لماذا لا نعتبره صديقًا لنا؟”

ولأول مرة منذ زمن، انفجرتُ ضاحكةً.. كان الاقتراح سخيفًا ومضحكًا في آنٍ واحد.. تابع بثقة: “دعونا نسميه، سيكون التعامل معه أسهل إذا اعتبرناه ضيفًا”.

بدأ الأطفال يقترحون أسماءً بلهفة، حتى اتفقوا جميعًا على اسم واحد: “زيكو”.. لم أصدق أن زوجي أقنعهم بقبول فأر في خيمتنا.. شعرتُ بجنونٍ تام.

سرعان ما كانوا ينادونه: “زيكو! زيكو!”

حتى ابنتي الصغرى “مسك” ذات الخمس سنوات، مدت يدها ودعته للنوم بجانبها.. في تلك اللحظة خفّ التوتر، وامتلأت الخيمة بالضحك.

بدأنا نسمع خطوات زيكو الصغيرة تتحرك بين أمتعتنا، ولم نعد نرتجف كما كنا من قبل.. حتى إننا رأيناه ولم نحاول إبعاده. تمتمتُ في نفسي غير مصدقة: “ما هذا الجنون؟ كيف تحول الرعب إلى مألوف بهذه السرعة؟” ثم، قبل أن يغلبني النوم، همستُ في نفسي: “كل شيء هنا أصبح جنونًا… هذه الحرب قادتنا إلى مصادقة فأر اسمه زيكو”.

5 أيلول/ سبتمبر 2025 – التشبث بخيط أمل رقيق:

أفتح عينيّ على سقف خيمتنا، الذي لا يحمينا من حر الصيف القارس ولا من أمطار الشتاء الغزيرة التي نعلم أنها قادمة.. يتقلب أطفالي بجانبي على فرش رقيقة بالكاد تحجبهم عن خشونة الأرض.

الحياة هنا بدائية للغاية.. نحفر في الأرض بحثًا عن الماء، ونشعل الحطب لنطهو طعامًا بالكاد يسد رمقنا.. في إحدى زوايا الخيمة أضع حمامًا صغيرًا من الخشب، لا يوفر الخصوصية ولا النظافة.. عندما أجد بعض الماء النظيف، أُحمّم أطفالي سريعًا مرة واحدة في الأسبوع.

مع كل هذا، نتشبث بخيط أمل رقيق في أن تنتهي الحرب، وأن تتوقف هذه الإبادة الجماعية التي تلاحقنا في كل مكان.. لكن الأخبار التي تصلنا تبدد ما تبقى من هذا الأمل.

نتابع تطورات الاجتياح “الإسرائيلي” لمدينة غزة ومحاولات الجيش إجبارنا جنوبًا.. معظمنا هنا يرفض الانصياع.. اخترنا البقاء غرب المدينة رغم الخطر، وكأننا نقول للعالم: “هذه أرضنا، هنا وُلدنا وهنا سنبقى”.

في الساعات الأخيرة، بدأ جيش الاحتلال استهداف المباني الشاهقة في مدينة غزة.. من بين هذه المباني برج مشتهى المكون من 13 طابقًا غرب المدينة. ففي لحظات تحول إلى أنقاض، وشُرّدت أكثر من 200 عائلة.. تخيلتُ المشهد، أصوات النساء والأطفال يصرخون وسط الدخان والغبار، مشهدًا يعكس مصيرًا نخشى جميعًا أن نواجهه في أي لحظة.

كأم، أشعر بالرعب يتسلل إلى عيون أطفالي كل مساء عندما يسمعون أصوات القصف.. يتشبثون بي كأنهم يبحثون عن حصن آمن، بينما أرتجف أنا من الخوف.. كيف لي أن أطمئنهم وأنا لا أستطيع أن أطمئن نفسي؟

كصحفية، أحمل على عاتقي عبئًا آخر؛ توثيق ونقل معاناة الناس من حولي، وأنا واحدة منهم.. أحاول الكتابة، يداي ترتجفان، وأفكاري تتضارب بين واجبي المهني وقلقي على أطفالي.. نتشبث بأملٍ خافت بأن الغد سيكون أفضل، بينما نعيش في رعب من اقتراب جحيم الجيش “الإسرائيلي” من خيمتنا، ليُحوّل حياتنا إلى قصة أخرى من مأساة فلسطين المستمرة.

المصدر: موقع ذا نيو هيومانيتيريان

The New Humanitarian

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews