أخبارتقارير و تحقيقات

غزة بعد الهدنة.. الطابور الخامس واستثمار الألم الشعبي في وجه الوحدة

تقرير – مولود سعدالله – مراسلين

مع دخول اتفاق الهدنة في غزة حيّز التنفيذ بدأت مرحلة أكثر تعقيدًا من المواجهة، لا تقل خطورة عن سنوات القصف والدمار ، فبينما تتجه الأنظار إلى إعادة الإعمار تتكشف ملامح حرب خفية تدور على الأرض، عنوانها الصراع على الحكم ومحورها محاولات تفكيك فكرة المقاومة من الداخل.

حين توقفت أصوات القصف في غزة لم تتوقف الحرب فقد بدأت مرحلة أخرى أكثر غموضًا تُدار في الكواليس، ويختلط فيها السياسي بالأمني والإعلامي ومع أن الأنظار تتجه إلى إعادة الإعمار، فإن الميدان يشهد تحولات داخلية خطيرة : جماعات مسلحة جديدة، اغتيالات غامضة، وحالة من الغضب الشعبي تُستغل لتفكيك ما تبقّى من فكرة المقاومة.

ميليشيا “أبو شباب”.. ظاهرة غامضة أم بداية تشكيل جديد؟

في الأسابيع الأخيرة تصاعدت الأحاديث داخل القطاع عن جماعة تُعرف محليًا باسم “أبو شباب” تنشط في بعض المناطق التي تضررت بشدة خلال الحرب، وتطرح خطابًا ينتقد الأوضاع القائمة بعد الهدنة.
ورغم عدم وجود تأكيد رسمي لطبيعة هذه المجموعة أو هيكليتها، فإن تداول اسمها في مواقع التواصل وبين سكان محليين أثار سلسلة من التساؤلات:
هل هي ردّ فعل شعبي على الانهاك والحصار؟ أم بداية لتشكل ميداني جديد خارج الإطار الفصائلي التقليدي؟
بعض المصادر ترى أنها تمثل تعبيرًا عن غضب جيل شاب يشعر بالتهميش بينما يحذر آخرون من احتمال توظيف هذه الحالة من قبل أطراف داخلية أو خارجية لإرباك المشهد الأمني والسياسي في القطاع.
ما هو مؤكد حتى الآن أن “أبو شباب” باتت عنوانًا لحالةٍ جديدة في غزة، تجمع بين الاحتجاج والضبابية، وتطرح سؤالًا أكبر:
هل ما يجري هو تطور طبيعي بعد حرب طويلة؟ أم ملامح صراع جديد على هوية المقاومة نفسها .

اغتيال الصحفي صالح الجعفراوي.. رسالة في الظلام

مقتل الصحفي صالح الجعفراوي في غزة، وفي ظروف لا تزال غامضة لم يكن حادثًا عابرًا؛ بل بمثابة مؤشر خطير على تحول طابع الصراع. الجعفراوي الذي عرف بتغطياته الميدانية وصوته المعبر عن معاناة المدنيين،استُهدف في وقت تزداد فيه هيمنة الروايات المضادة على الفضاء العام.

أبعاد هذه الحادثة متعددة:

قتل صحفي يُعمل على نقل معاناة الناس يرسل رسالة رعب لكل من يوثق أو ينتقد ، وهو يثني الأصوات المستقلة ويشجع على الصمت.

إستعمال إعلامي للحادثة:
تُستغل مثل هذه الجرائم لتأجيج الانقسامات وتحميل فصائل بعينها مسؤولية الفوضى أو العكس لتظهر أن بدائل “أمنية” خارج الإطار التقليدي أفضل.

غموض الجهة الفاعلة: عدم إعلان أي جهة مسئوليتها ووجود مزاعم متداخلة حول ميليشيات محلية أو أطراف متواطئة يزيد من مناخ الشكّ ويقوّي رواية الطابور الخامس.

بالتالي أصبح اغتيال الجعفراوي ليس فقط جريمة بحق فرد وحرية الصحافة بل أداة تعمل على تآكل الثقة العامة بين المواطنين وقياداتهم، وتسهيل مهمّة الأطراف التي تسعى لزعزعة الوحدة الداخلية.

استغلال الألم الشعبي.. الحرب النفسية الجديدة

بعد شهور من القصف والحصار يعيش سكان غزة حالة إنهاك نفسي واجتماعي غير مسبوقة، هذا الألم الجماعي بدل أن يتحول إلى طاقة صمود يجري توجيهه إعلاميًا ضد فصائل المقاومة، عبر حملات منظمة على مواقع التواصل تروّج لخطاب “كفى مقاومة.. نريد حياة”. خبراء في الحرب النفسية يرون أن هذا التحوّل ليس عفويًا بل يدخل ضمن استراتيجية تهدف إلى تفكيك الوعي الجمعي للمجتمع الغزي، وتحويل الإحباط إلى نقمة داخلية.

هدف الاحتلال.منع الوحدة الفلسطينية كسياسة استراتيجية

في قلب ما يجري.هناك هدف استراتيجي واضح: منع توحّد الفلسطينيين سياسياً وميدانيًا هذا الهدف يتجسد عبر أدوات متعددة:

تشجيع وتغذية الخلافات بين الفصائل وإظهار حماس كعائق أمام وقف المعاناة ما يدفع الجمهور للبحث عن بدائل داخلية أو خارجية.

دعم عمليّات تقويضية غير مباشرة (سياسية أو أمنية) تهدف إلى إضعاف القيادة الموحدة أو إحداث فراغ إداري تُستغلّه أطراف خارجية لتشكيل إدارة بديلة.

استغلال غضب الناس عن طريق أدوات إعلامية وميدانية لتظهير المطالب الفردية/المحلية كبديل للمشروع الوطني الشامل.

الغرض من هذا المسار ليس بالضرورة السيطرة المباشرة على كل شبر بل خلق بنية سياسية واجتماعية مفككة لا تسمح ببناء قيادة فلسطينية موحّدة قادرة على إدارة قطاع إن نجاح هذا التوجه يعني تحييد المشروع الوطني عن ساحات القرار، وإضعاف قابليته على إعادة التشكّل كقوة موحّدة.

من حرب التحرير إلى حرب الانقسام

ما يحدث في غزة ليس جديدًا من حيث الفكرة بل يعيد إلى الأذهان أسلوب فرنسا في الجزائر حين حاولت بعد فشلها العسكري، اختراق جبهة التحرير الوطني عبر شخصيات محلية ووسائل دعائية هدفت لتشويه الثورة وتقسيم صفوفها ، لكنّ الثورة الجزائرية صمدت لأن الوعي الشعبي ظلّ متماسكًا رغم كل محاولات الاختراق اليوم تواجه غزة المشهد ذاته، لكن في سياق إعلامي أكثر تعقيدًا حيث تُشنّ الحرب عبر الشاشات والمواقع أكثر مما تُخاض في الميدان.

سيناريوهات ما بعد الهدنة

بين الانقسام السياسي ومحاولات فرض إدارة جديدة على القطاع، تبقى الأسئلة مفتوحة:
هل ستستطيع حماس الحفاظ على حضورها في ظل الحصار الأمني والسياسي؟

هل يمكن للغضب الشعبي أن يتحول إلى مشروع وطني جامع بدل أن يكون أداة للاختراق؟

وما موقع الصحافة الحرة والمستقلة في حماية الذاكرة الوطنية ومنع تفكيك الحقيقة؟

دور حركة فتح
في هذا المشهد المضطرب قد تكون حركة فتح لاعبًا محوريًا محتملًا في مسارين متناقضين فمن جهة تمتلك الشرعية الدولية والروابط مع مؤسسات السلطة التي تؤهلها للمشاركة في إدارة انتقالية أو إشراف على إعادة الإعمار ، ومن جهة أخرى فإن محاولتها للتدخل المباشر قد تُفسّر محليًا كعودة لسياسة الهيمنة ما قد يزيد من الشرخ الداخلي إذا لم تُصاحب مشاركتها بضمانات شفافية ومشاركة فصائلية فعلية ،لذلك يمكن لفتح أن تكون عاملاً للوحدة لكبر الحركة وتاريخها شرط التوافق لكي لا تكون سببا في انقسام جديد .

غزة اليوم لا تُحاصر بالجدران فقط بل تُحاصر أيضًا بالروايات المتناقضة ، الخطر الأكبر ليس من الطائرات بل من الحرب النفسية التي تُدار بهدوء داخل العقول ، اغتيال الصحفي صالح الجعفراوي مثال صارخ حين يُسكت الصوت الحرّ، تتكاثر الأصوات التي تريد للانقسام أن يكون قسمة جديدة في الجغرافيا الوطنية.
وما لم تُحصّن المقاومة نفسها بالشفافية والوحدة فإن “الطابور الخامس” لن يحتاج إلى طلقة واحدة لإسقاطها، بل سيكتفي بزرع الشك في وعيها الجمعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews