شاهد تحت التهديد.. صحافة محاصرة بين فكي الصراع وحقبة “التضليل”

ضيف الله الطوالي – مراسلين
اليمن – في بلدٍ دخل مدار رادار التصنيف العالمي كأخطر بيئات العمل الصحفي في العالم، يجد الصحفيون أنفسهم أمام تحديات وصعوبات وخطوط حمراء رسمتها الجهات المتصارعة في البلاد، يؤدي تجاوزها إلى ما لا يحمد عقباه فأما التغييب القسري أو الموت المحتم.
يؤكد خبراء وصحفيون أن المشهد الإعلامي في اليمن قد تحول إلى بيئة عالية الاستقطاب والمخاطر، في ظل انقسام أجهزة الدولة واستغلال المال السياسي للمنصات الإعلامية منذ أكثر من عقد. هذا الانقسام والتضييق أدى إلى تراجع كبير في العمل الصحفي، حيث يغيب مفهوم “الصحافة بالمعنى” في مناطق سيطرة جماعة الحوثي ليحل محله “الصوت الواحد” للجماعة، بينما تشهد مناطق الحكومة الشرعية انتهاكات واعتقالات في أكثر من محافظة، وفقاً للصحفي اليمني في شبكة الجزيرة اصيل سارية.

إعاقة الوصول للمعلومة
يتفق الصحفيون على أن الحصول على المعلومة هو التحدي الأبرز الذي يواجه العمل الصحفي في اليمن، على الرغم من أن القانون رقم (25) لسنة 1990م بشأن الصحافة والمطبوعات يضمن في المادة (14) حق الصحفي في “الحصول على المعلومات والأنباء والبيانات والإحصائيات من مصادرها وحق نشرها والاحتفاظ بسرية مصادره”.
يشير سارية إلى أن اليمن، الذي كان مصنعاً للصحافة من ضمن خمس دول عربية فيما يخص حق الوصول للمعلومات، إلا انه يفتقر اليوم إلى قاعدة بيانات، كما أن الأطراف المعنية لا تتعاون إيجابياً، بل “تنظر للصحفي كخصم”. هذا الواقع يدفع الصحفيين إلى “خلق المعلومات خلقاً”، مما ينعكس سلباً على جودة ومحتوى التقارير، حيث يستغرق إنجاز مادة صحفية أضعاف وقتها الطبيعي بسبب عدم توفر المعلومة ورفض المسؤولين الإدلاء بها تحت مبررات واهية كطلب تصريح رسمي، بحسب الصحفي عبدالرحمن ربيع.
يضاف إلى ذلك أن الخوف من التبعات والانقسام المؤسسي يزيد من تعقيد المشهد، وفي أحيان كثيرة تضيع أفكار صحفية مهمة نتيجة هذه العوائق.
تضليل واستقطاب حاد
تتسم البيئة الإعلامية أيضاً بحالة انقسام واستقطاب حادة، وتخضع لسيطرة أطراف الصراع، فيما تساهم بعض الجهات الدولية بالتمويل الذي “يحرف مسار هذه المنصات”، ما يضر بالحرية الصحفية، هذا الوضع يفرض على المشهد “ضخاً غير طبيعي من المعلومات الخاطئة والمضللة”، التي قد تكون مقصودة من طرف معين، ويسهل وقوع الصحفي في خطئها، كما أفاد سارية.

من جهته، يوضح عبدالرحمن ربيع، الذي يعمل كمدقق معلومات، أن محاولة تفنيد أي تضليل أو فيديو لأي طرف سياسي تعرضه للتنمر والهجوم والتهديد الضمني، حيث تصل الكلمات الساخرة مثل (يا محقق، يا كونان)، ما يضع الصحفي في خانة “التهديد والوعيد”.
كما أسهم انقسام أجهزة الدولة في التضييق على الحريات الصحفية، والتعتيم على المعلومات، ونتج عنه “تصريحات متعارضة وبيانات غير متسقة”، مما شجع أطراف الصراع على استغلال “الفراغ المعلوماتي بترويج سرديات دعائية ومضامين كاذبة”، كما ذكر الدكتور “عبده حسين أحمد الأكوع”، أستاذ الاتصال الرقمي والسرد الاستقصائي المساعد في جامعة صنعاء، ونتيجة لذلك، يضطر الصحفيون المستقلون للاتجاه إلى المصادر المفتوحة والتحقق منها عبر منصات الذكاء الاصطناعي، رغم مخاطرة ذلك.

الشيطنة والتهديد
أكثر ما يواجهه الصحفي هو شيطنته واعتباره “عدواً” ما يعرضه للاعتقال التعسفي والتهديدات والقتل، هذا الموقف العدائي يتجسد في تصريحات زعيم جماعة الحوثيين عبد الملك الحوثي الذي أعلن أن “المرتزقة والعملاء من فئة الإعلاميين أكثر خطرا على هذا البلد من الخونة والمرتزقة الأمنيين المقاتلين”. ويزيد الأمر سوءاً ما أفاد به الصحفي المفرج عنه عبدالخالق عمران في تقرير “هيومن رايتس ووتش” إذ كان مسؤول في سجن حوثي يقول: “نتقرب إلى الله بتعذيب الصحفيين”.
ويصف الصحفيون البيئة بأنها “سيئة جداً ومقلقة”، حيث يكتبون وهم “متوجسون أن لا يروا الغد” حسب قول الصحفية منيرة الطيار والتي كشفت عن تعرضها للمضايقات والتهديد بسبب تحقيقات استقصائية، ما دفعها للتوقف عن أغلبها في منتصف العمل و”إزاحتها عن النشر” لحين توفر بيئة تقبل بالصحفي، وتشدد على أن سلامة الصحفيين أهم من أي مادة صحفية، محذرة المبتدئين من إظهار حماسهم المفرط لأنهم في بيئة “لا تنصف الصحفي ولا تحترم عمله السامي”، بل تضعه في دائرة الاتهام، وتجعله مادة لصحفيين آخرين.
وفي تقرير لـ”مواطنة لحقوق الإنسان” يكشف كيف عمِدت مختلف أطراف النزاع في حرف بوصلة وسائل الإعلام نحو ما يخدم مصالحها السياسية ونشر خطاب الكراهية والتحريض ضد الصحفيين والصحافة المستقلة.

كما ذكرت “نيكو جعفرنيا”، باحثة اليمن والبحرين في هيومن رايتس ووتش، أن “الهجمات المتكررة للأطراف المتحاربة على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية تهدد حياة عشرات الصحفيين وتقوّض بشكل خطير حرية التعبير”.
في ظل هذه المخاطر، تعمل نقابة الصحفيين اليمنيين في عدن “بسرية” خوفاً من الانتهاكات، كما أكد رئيسها محمود ثابت في تقرير للجنة الرقابة بنقابة الصحفيين، هذا الوضع يدفع العديد إلى الرقابة الذاتية، التي تعتبر رد فعل للبقاء، وربما تتحول إلى عادة مهنية بغياب شبكات الحماية، كما يقول د. الأكوع، مؤكداً الحاجة إلى “دولة ضامنة للحقوق والحريات الصحفية”.

انتهاكات وحصاد مرير
في سياق الانتهاكات المتزايدة، رصد تقرير نقابة الصحفيين اليمنيين السنوي لعام 2024م، 101 حالة انتهاك طالت الحريات الصحفية، في مؤشر على تضاعف المخاطر وضعف الحماية واستمرار سياسة الإفلات من العقاب، تنوعت الانتهاكات لتشمل 27 حالة حجز للحرية (اختطاف، اعتقال، ملاحقة)، و23 حالة تهديد وتحريض، و19 حالة محاكمة، وحالة إعدام واحدة للصحفي المخفي منذ 2015م محمد قائد المقري، ليرتفع بذلك عدد القتلى إلى 46 قتيلاً في العشر سنوات الأخيرة.
المنتهكون الرئيسيون
ارتكبت جماعة الحوثي 45 حالة انتهاك (44.6٪)، تلتها الحكومة المعترف بها دولياً بـ 31 حالة (30.7٪)، والمجلس الانتقالي الجنوبي بـ 11 حالة (10.8٪)، وتشير النقابة إلى أن الإجراءات القضائية في 19 حالة محاكمة كانت “تتجاوز قانون الصحافة والمطبوعات وقانون حق الحصول على المعلومات”، حيث يحاكم الصحفيون أمام محاكم جزائية متخصصة بالأمن القومي وقضايا الإرهاب، كما أن الأحكام القضائية الصادرة لصالح الصحفي لا تلتزم السلطات بتنفيذها.

توصيات للنجاة والاستقلالية
نظراً لكون “علاقة الصحفي بهذه الأطراف تعتمد على قدرته في التكيف مع الوضع” والعمل على إبراز الحقائق للوصول للمصادر “بصعوبة بالغة”، يشدد الصحفيون والخبراء على ضرورة الموازنة بين الشجاعة والسلامة ويجب على الإعلاميين، وخاصة المبتدئين، “التحلي بروح المسؤولية والعمل بشكل مستقل وبحذر ووعي”، والموازنة بين “شجاعتهم المهنية وسلامتهم الشخصية” لتجنب أن يصبحوا ضحايا.
كم أن هناك ضرورة لتأهيل الصحفيين في فنون الصحافة الحديثة وتعلم عملية التحقق من الأخبار والمواد الصحفية، لتجنب الوقوع في فخ التضليل.
وفي إطار العمل تواصل معد التقرير مع مصادر لدى نقابة الصحفيين اليمنيين، فابدوا تجاوبهم واستعدادهم للتعاون وذلك مع بداية اكتوبر الجاري، ولكن فيما بعد لم يأتي الرد المنتظر على الاستفسارات المقدمة إليهم، حتى وقت نشر المادة، ما اضطر معد التقرير إلى الاستعانة بالمصادر المفتوحة ومنها تقرير لجنة الحريات بالنقابة لعام 2024.
الحماية القانونية
يتطلب الأمر العمل على إبرام تفاهمات بين المؤسسات الصحفية وهيئات أمنية بعدم استهداف الصحفيين، وتسجيل الصحفيين المعرضين للخطر لدى بعثات أممية ومنظمات دولية لطلب حماية أو مساعدة بالإجلاء عند الحاجة، كما توصي النقابة كافة السلطات بإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين ورفع القيود، ويتطلب استعادة استقلالية المؤسسات الصحفية “تنويع الإيرادات وإيجاد مصادر داخل مستدامة” وبناء آليات مالية شفافة.
وتبقى الحاجة ملحة لتشجيع الصحفيين ووسائل الإعلام على نشر تحليلات متوازنة تستند إلى دلائل واقعية من الميدان، وتثقيف المجتمع حول دور الصحفي كـ “شاهد” على أي حدث لا كطرف في النزاع، ما يحد من محاولات استهدافه.