تقارير و تحقيقات

الذين يكتبون تحت التهديد: الإعلاميين في قبضة مليشيا الدعم السريع

ممدوح ساتي -مراسلين

في غرب السودان، حيث تنقش الحرب ملامحها على كل جدار، تُشنّ حرب أخرى لا تُرى بالكاميرات ، حرب على الكلمة، على الصوت، على الوعي.

في مدن وارياف دارفور وكردفان ، حيث تمددت سيطرة ميليشيا الدعم السريع ، من الفاشر إلى نيالا وزالنجي والجنينة وكتم وقريضة والسريف بني حسين وكبكابية، الفوله وغيرها، أصبح الإعلاميون هدفًا مباشرًا لكل سلاحٍ يكره الضوء.

من كان يحمل الميكروفون أو الكاميرا بالأمس، صار اليوم يختبئ تحت الأنقاض أو معتقل في سجون الميليشيا.
فالكلمة باتت جريمة، والتوثيق تهمة، والمهنية خطرًا على الحياة.

الصحافة في مرمى السلاح

منذ اندلاع النزاع الواسع في أبريل 2023، رصدت منظمات دولية وحقوقية موجة غير مسبوقة من الانتهاكات ضد الصحفيين في مناطق سيطرة الدعم السريع.
تنوّعت هذه الانتهاكات بين القتل المباشر أثناء القصف، والاعتقال القسري، ومصادرة المعدات، والاستيلاء على المنازل والمكاتب الإعلامية، وصولاً إلى إجبار الإعلاميين على إنتاج مواد دعائية تروّج لخطاب الميليشيا.

في الفاشر، عاصمة شمال دارفور، تُعد الانتهاكات الأشد قسوة. فبعد أن حوصرت المدينة لأشهر، استُهدفت مقارّ الإذاعات المحلية، واعتُقل عدد من المذيعين والصحفيين والصحفيات وتعرضوا للتعذيب والانتهاك لكرامتهم ولحقوقهم الانسانية.
وفي نيالا جنوب دارفور، أُغلقت المؤسسات الإعلامية الخاصة والعامة على حد سواء، بينما تحوّلت بعض المحطات إلى أدوات بث تابعة للميليشيا.

أما في زالنجي والجنينة، فالقمع بلغ حدّ اختفاء إعلاميين قسريًا منذ شهور، دون أن تتمكن عائلاتهم أو زملاؤهم من معرفة مصيرهم.

نماذج توثيقية من الميدان

  • أحمد محمد الصالح سيدنا – مدير قسم الإذاعة بشمال دارفور، قُتل في 14 أبريل 2025 جراء قصفٍ استهدف مبنى سكنيًا في الفاشر.
    منظمة لجنة حماية الصحفيين (CPJ) أدانت مقتله، مطالبةً بتحقيق شفاف ومحاسبة الجناة.
  • الـنور سليمان – إعلامي ومقدم برامج في إذاعة محلية بالفاشر، قُتل في 4 أكتوبر 2025 إثر غارة لطائرة مسيّرة استهدفت حي الدارجة العليا.
    الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) وصف مقتله بأنه “جزء من نمط استهداف متعمد للعاملين في الإعلام داخل مناطق النزاع”.
  • عبد العزيز محمود أرجة – مصور تلفزيوني من زالنجي، اعتقلته قوات الدعم السريع في 30 أبريل 2024، وما يزال محتجزًا في مكان غير معلوم.
    لجنة حماية الصحفيين طالبت بالإفراج الفوري عنه، مؤكدة أنه “لم يُتّهم بأي جرم سوى ممارسة عمله الصحفي”.
  • الرشيد محمد هارون – رئيس إذاعة «دارفور 90.3»، اعتُقل في الجنينة نهاية يوليو 2025 بعد مداهمة سوق أردبيا، ونُقل إلى سجن داگرِس دون تهمة.
    تقرير CPJ الأخير كشف أن أسرته ممنوعة من التواصل معه منذ اعتقاله.
  • أشرف عمر إبراهيم – مراسل قناة الزرقاء، استولت قوات الدعم السريع على منزله في نيالا يوم 23 أكتوبر 2024 بعد تهجيره القسري.
    منظمة لجنة العدالة من أجل الحقوق (CFJ) أدانت الحادثة وطالبت بإعادة الممتلكات المصادرة.

شهادات من الداخل

“نكتب في الظلام، نرسل الأخبار عبر هواتف مهددة بالمصادرة، ونخفي المذكرات في الجدران الطينية”.

بهذه العبارة وصف أحد الصحفيين الهاربين من أم كدادة وضع زملائه الذين بقوا هناك، مؤكداً أن قوات الدعم السريع تعتبر “أي نشاط إعلامي خارج نطاقها خيانة، وأي توثيق جريمة”.

في كتم وقريضة، وثّق شهود عيان احتجاز صحفيين محليين وإجبارهم على تسجيل مواد دعائية تمدح “بطولات” الميليشيا. بعضهم أُفرج عنه بعد أسابيع، وآخرون لا يزال مصيرهم مجهولاً.

ردود الفعل والنداءات الدولية

تزايدت النداءات الدولية منذ منتصف 2024 مطالبةً بحماية الصحفيين في السودان، وخاصة في مناطق سيطرة الدعم السريع.

من أبرزها:

  • اليونسكو (UNESCO) أعربت عن قلقها من تدهور حرية الإعلام في السودان، وأكدت أن استهداف الصحفيين “يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني”.
  • الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) أطلق حملة بعنوان “أوقفوا قتل الحقيقة في السودان” بعد مقتل خمسة إعلاميين خلال شهرين فقط في دارفور.
  • لجنة حماية الصحفيين (CPJ) أصدرت أكثر من عشر بيانات منذ 2023، طالبت فيها بوقف الاعتقالات القسرية ومحاسبة المسؤولين.
  • منظمة العفو الدولية (Amnesty International) دعت إلى السماح بدخول بعثات مراقبة دولية لتقصي أوضاع الإعلاميين في مناطق النزاع.

ورغم هذا الزخم الحقوقي، فإن الاستجابة الميدانية لا تزال غائبة، إذ ترفض قوات الدعم السريع السماح لأي جهة محايدة بالدخول إلى مناطق نفوذها لتوثيق الأوضاع أو زيارة المعتقلين.

صوتٌ يُطارد الحقيقة

تُظهر كل هذه الشهادات أن المعركة في السودان لم تعد بين جيشين فقط، بل بين من يملك السلاح ومن يملك القلم.
الإعلاميون في مناطق الدعم السريع يعيشون في خوف دائم، ومع ذلك لا يزال بعضهم يرسل تقاريره من قلب النار، متخفياً خلف أسماء مستعارة، متحديًا الرقابة والملاحقة.

في زمن الحرب، تصبح الحقيقة أولى الضحايا، لكن الصحفيين هناك ، رغم الجوع والحصار والتهديد ، ما زالوا يقاتلون من أجلها، بالحرف وحده.

من سيكون الصوت لمن لا صوت له؟

بين أنقاض الفاشر والجنينة، في المدن التي خنقها الصمت القسري، ما زالت الحقيقة تتنفس في الخفاء.
لكنها تحتاج من يحملها إلى العالم، من يقف إلى جانب الذين يكتبون دون حماية، من يعيد للصحافة السودانية حقها في الوجود.

فالذين يكتبون تحت التهديد لا يبحثون عن البطولة، بل فقط عن لحظة يمكنهم فيها أن يقولوا:
“هنا كنا..وكتبنا الحقيقة.. وأسمعنا صوت من لا صوت له”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews