تقارير و تحقيقات

الفاشر على حافة الموت جوعًا: حصارٌ خانق، قصفٌ مستمر، ومساعداتٌ عاجزة


مصعب محمد- خاص مراسلين

السودان – جلست أم الطفلة هاجر إسحاق جوار جثمان طفلتها البالغة من العمر 14 عامًا، يدها فوق رأسها ونظرتها معلقة بأملها الوحيد الذي رحل بصمت. لم تتحمل هاجر قسوة الطريق، فأسلمت الروح أثناء رحلة نزوحها من مدينة الفاشر إلى منطقة طويلة. لم تكن هذه اللقطة مشهدًا عابرًا، بل مرآةً تعكس وجع مدينةٍ كاملةٍ يطاردها الجوع، والقذائفُ المدفعيةُ العشوائيةُ المستمرةُ طوال اليوم، والتي تلاحق المدنيين في ملاجئهم ومنازلهم، تحت الأرض وفوقها.

لجأ مواطنون من مدينة الفاشر والمناطق التي حولها للنزوح خارج مناطقهم إلى منطقة طويلة التي تبعد 78 كيلومترًا عن الفاشر المحاصرة غربي السودان في رحلة محفوفة بالمخاطر، وبأجسادٍ هزيلةٍ لم تذق لقمة طعام منذ أشهر، تتناثر جثث رجال ونساء وأطفال على الطريق الترابي الواصل بين مدينة الفاشر ومنطقة طويلة بولاية شمال دارفور كأنها تحكي بصمت مأساة الآلاف الذين حاولوا الفرار من حصار خانق ، هربًا من القصف العشوائي والجوع الممنهج والمستمر الذي تمارسه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر.

بعد أكثر من عام تحت الحصار، من لم يمت بالقصف العشوائي مات بالجوع؛ هكذا يقول أحمد آدم أحمد مواطني مدينة الفاشر. وتشهد المدينة حالةَ جوعٍ غير مسبوقة، مع انعدام تام للمواد الغذائية؛ لم يجد الناس ما يأكلونه سوى جلود الأبقار اليابسة، في ظل نفاد العلف الحيواني المعروف محليا ب “الأمباز”، وقصف قوات الدعم السريع للسوق المركزي الوحيد العامل جزئيًا بمدينة الفاشر. الأطفال الجوعى في الملاجئ لا حيلة لهم سوى البكاء في أيدي أمهاتهم وآبائهم، إلى أن يخفَّ البكاءُ تدريجيا ويسلموا الأرواح في صمت.

تستهدف قوات الدعم السريع المستشفياتِ ومنازلَ المواطنين و”التكايا” الخيرية التي توفّر الطعام المجاني لهم، والتي ما إن اصطفوا حولها للحصول على لقمة تسد رمقهم حتى تباغتهم الصواريخ والمقذوفات، فتسقطهم بين قتيلٍ وجريح، كما حدث في الاستهداف الأخير بمسيّراتٍ استهدفت مركز إيواء دار الأرقم، والذي خلّف أكثر من 60 قتيلًا. المدينة محاصرة من كل اتجاه وجبهات القتال مشتعلة، وما إن يتوقف القصف المدفعي المتبادل للحظاتٍ حتى يستأنف بوتيرةٍ أعنف تمتدّ لساعات أخرى.

هذه الأوضاع الإنسانية المعقّدة، من قصفٍ مستمرٍ وانعدامٍ للغذاء، أجبرت المواطنين داخل المدينة على مغادرتها خلال الأيام القليلة الماضية، في ظل موجات نزوحٍ متواصلةٍ نحو منطقة طويلة.

يقول المتحدث باسم “المنسقية العامة للاجئين والنازحين في دارفور”، آدم رجال إن “مئات العائلات النازحة حديثًا من النساء والأطفال من الفاشر وصلت إلى منطقة طويلة، وسط ظروفٍ إنسانيةٍ معقّدة”.

وأشار إلى أن المنطقة استقبلت في الأشهر الماضية مئات الآلاف من النازحين من الفاشر والمعسكرات المحيطة بها.

ويشير أحدث تقريرٍ أممي إلى أن الفاشر تؤوي نحو 260 ألف مدني، في ظل انعدامٍ شبهِ كاملٍ للمساعدات الإنسانية. وحذّر التقرير من أن يؤدي الحصار المفروض على المدينة، وقطع طرق الإمداد، وتوقّف وصول القوافل الإنسانية في معظم الأحيان، إلى مأساةٍ إنسانيةٍ غير مسبوقة.

ويقول نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، إنهم يواصلون العمل مع شركائهم لتقديم كل ما يلزم لمساعدة النازحين من الفاشر والمناطق المحيطة بها، مضيفًا أن منطقة طويلة شهدت وصول أكثر من 600 ألف نازحٍ، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، وصلوا إليها في ظل أوضاعٍ إنسانيةٍ مأساويةٍ قادمين من مدينة الفاشر والمناطق المجاورة.

ومع استمرار الحصار الذي تشهده مدينة الفاشر منذ مايو/أيار 2024، والمحاولاتِ الدوليةَ والأمميةَ لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المواطنين في المدينة، تظل هذه الجهود غير ناجعة. ومع استمرار الحصار الخانق والقصف المستمر على مدينة الفاشر وتعذّر وصول المساعدات الإنسانية، تتجه الأوضاع نحو كارثةٍ إنسانيةٍ محققة. فالجوع والمرض يفتكان بالمدنيين، فيما يضاعف النزوحُ المستمرُ معاناةَ الآلاف في منطقة طويلة التي أنهكتها الأعدادُ المتزايدةُ من الفارين وقلة الموارد المتاحة . وإن لم تُفتح ممراتٌ آمنةٌ، وتتحرك الجهودُ الدوليةُ بجدية، فستواجه الفاشرُ مجاعةً وصمتًا يشبه الموتَ البطيءَ لأهلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews