اليهود في نيويورك وزهران ممداني: تصويت يتجاوز الموقف من إسرائيل؟

إعداد: أبوبكر خلاف
الملخص التنفيذي
تتناول هذه الدراسة التحليلية تحوّل أنماط التصويت داخل المجتمع اليهودي في نيويورك خلال انتخابات بلدية عام 2025، والتي برز فيها المرشح المسلم زهران ممداني كأحد أبرز وجوه اليسار التقدمي في الحزب الديمقراطي. رغم تصريحاته المنتقدة لإسرائيل ودعمه لمواقف مناهضة للصهيونية، فقد حظي بتأييد ملموس من شرائح يهودية، ما يعكس انقسامًا جديدًا داخل الهوية السياسية اليهودية الأميركية.
تسعى الدراسة إلى تفسير هذا التحول عبر ثلاثة محاور: التحوّل في أولويات الناخب اليهودي، إعادة تعريف العلاقة بين الهوية اليهودية والموقف من إسرائيل، وأثر الحرب على غزة في تفكيك الإجماع التاريخي المؤيد لتل أبيب في السياسة الأميركية المحلية.
1. الإطار العام للدراسة
1.1. الخلفية السياسية
منذ عقودٍ كانت العلاقة بين المجتمع اليهودي في نيويورك والطبقة السياسية الديمقراطية ترتكز على معادلة واضحة: دعم سياسي مقابل التزام صريح بإسرائيل. غير أنّ العقد الأخير شهد تغيّرًا تدريجيًا في المزاج العام، تزامن مع بروز تيارات يسارية داخل الحزب الديمقراطي تعارض الاحتلال الإسرائيلي وتدعم مقاطعة الاستيطان. في هذا السياق، يمثّل ممداني، ذو الأصول الأوغندية-الهندية، نموذجًا لهذا التحول الخطابي والسياسي.
1.2. أهمية نيويورك
تُعد نيويورك المدينة ذات الكثافة اليهودية الأعلى خارج إسرائيل، إذ تتجاوز نسبة اليهود 12٪ من سكانها. لذلك، تُعتبر توجهاتهم الانتخابية معيارًا رئيسيًا في قراءة العلاقة الأميركية–الإسرائيلية من منظورٍ اجتماعي وثقافي داخلي.
2. الإطار المنهجي والتحليلي
اعتمدت الدراسة المنهج التحليلي المقارن بين تغطياتٍ إعلامية عبرية وإنجليزية (The Guardian، The Washington Post، Haaretz، Ynet، The Forward)، إضافةً إلى تحليل مضمون التصريحات والمقابلات الميدانية المنشورة مع ناخبين يهود مؤيدين ومعارضين لممداني.
التحليل استند إلى ثلاثة مستويات:
- الخطاب السياسي والإعلامي للمرشح.
- البنية الاجتماعية للناخب اليهودي الأميركي.
- التأثير المتبادل بين الحرب في غزة وخطاب «اليسار اليهودي الجديد».
3. تحوّل أولويات القاعدة اليهودية
3.1. من الولاء الخارجي إلى البراغماتية المحلية
تبيّن من استطلاعاتٍ نشرها The Washington Post (أكتوبر 2025) أن نسبة 41٪ من اليهود في نيويورك يفضّلون «الاستقرار المحلي على الموقف من إسرائيل» عند اختيارهم للعمدة. هذا التحوّل يعكس ما تصفه The Guardian بأنه انتقال من «السياسة الهووية» إلى «السياسة المعيشية».
لم يعد الولاء لإسرائيل معيارًا حاسمًا، بل حلت مكانه قضايا الأمن، السكن، والتعليم، خصوصًا لدى الجيل الثاني من المهاجرين اليهود الذين يعرّفون أنفسهم كمواطنين أميركيين أولًا.
3.2. تآكل الإجماع المؤيد لإسرائيل
كان تأييد إسرائيل يُعد لسنواتٍ شرطًا ضمنيًا للقبول السياسي في نيويورك، لكنّ صعود ممداني كشف حدود هذا الإجماع. وفق Haaretz، فإنّ جيلًا شابًا من اليهود الديمقراطيين يرى أنّ «الانتقاد المشروع لإسرائيل لا يتعارض مع يهوديته»، بل يُعبّر عن ضميرٍ أخلاقي نابع من قيم العدالة والإنصاف.
4. ممداني وبناء الجسور مع الناخبين اليهود
4.1. تحالفات متناقضة
رغم خطابه المناهض لسياسات تل أبيب، نجح ممداني في بناء ائتلافٍ يجمع بين منظماتٍ يهودية تقدمية (مثل Jewish Voice for Peace و Jews for Racial and Economic Justice) وبعض طوائف الحسيديم (Satmar) المناهضة للصهيونية الدينية. هذا التنوع يعكس بُعدًا اجتماعيًا لا أيديولوجيًا، حيث اجتمع المؤيدون على أساس الخدمات البلدية لا العقيدة السياسية.
4.2. خطاب “المدينة أولًا”
أعاد ممداني صياغة خطابه البلدي على محورين: مكافحة الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية معًا، وتحسين الخدمات العامة في الأحياء ذات الكثافة اليهودية. بحسب The Forward، هذا التكتيك ساهم في تخفيف الحساسية تجاه مواقفه الخارجية وفصل «الملف الإسرائيلي» عن العمل البلدي.
5. الحرب على غزة وتأثيرها في المشهد الانتخابي
5.1. تصعيد الخطاب وتبدّل المزاج
اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر 2023 أحدث شرخًا داخل المجتمع اليهودي الأميركي. فبينما تمسّكت المؤسسات التقليدية بخطاب «الدفاع عن إسرائيل»، عبّر جيل الشباب عن رفضٍ متزايد للعمليات العسكرية الإسرائيلية.
في هذا السياق، مثّل ممداني أحد الأصوات البارزة التي وصفت الهجوم الإسرائيلي بـ«الحرب الإبادة»، ما أثار انتقاداتٍ شديدة من منظماتٍ يهودية محافظة. ومع ذلك، ووفقًا لـThe Guardian، فإنّ هذه الجرأة «منحته احترامًا داخل دوائر يهودية يسارية ترى في الصراحة الأخلاقية معيارًا للقيادة».
5.2. غزة كمحرّك لإعادة تعريف الهوية
تُظهر المقابلات المنشورة في The Washington Post أنّ كثيرًا من اليهود التقدميين يرون في الحرب على غزة نقطة تحوّلٍ جعلتهم يفصلون بين انتمائهم الديني وتعاطفهم السياسي. لقد ولّد النزاع شعورًا بالحرج الأخلاقي، ودفع بعضهم إلى إعادة التفكير في علاقة اليهودية بالسياسة الإسرائيلية الرسمية.
6. مقاومة داخلية وصراع هوية
6.1. ردّ فعل المؤسّسات التقليدية
واجه ممداني رفضًا قاطعًا من كبرى المنظمات اليهودية، مثل Anti-Defamation League و AIPAC، التي اعتبرت فوزه المحتمل «انحرافًا عن الإجماع التاريخي». أصدرت بياناتٍ حذّرت فيها من «إضفاء الشرعية على خطابٍ معادٍ للصهيونية».
6.2. الخطاب المضاد والإسلاموفوبيا
في المقابل، تعرّض المرشّح لهجماتٍ ذات طابعٍ ديني وعنصري على شبكات التواصل، وظهرت حملات تصوّره كـ«خطرٍ على اليهود». غير أنّ تغطيات The Guardian أشارت إلى أنّ تلك الحملات ارتدّت عكسيًا، إذ ولّدت موجة تضامنٍ داخل الأوساط الليبرالية اليهودية دفاعًا عن حرية التعبير.
7. قراءة عبرية مقارنة
أبرزت Ynet و Israel Hayom نبرة قلق من أن تصبح تجربة نيويورك «سابقةً خطيرة» تُلهم مدنًا أميركية أخرى، معتبرةً فوز ممداني «دليلًا على تآكل النفوذ الإسرائيلي في الشتات». في المقابل، حاولت Haaretz تقديم قراءة أكثر اتزانًا، رأت فيها مؤشّرًا على نضج الجالية اليهودية وقدرتها على التعايش مع التعددية داخلها، رغم حساسية الموقف.
8. البعد الحزبي والدلالات الأميركية الأوسع
يمثّل ممداني نموذجًا لما يُعرف بـ«جيل AOC» داخل الحزب الديمقراطي، أي الجيل المستلهم من ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، الذي يدفع باتجاه يسارٍ تقدّمي يربط العدالة الاجتماعية بالسياسة الخارجية.
ترى The Washington Post أنّ حملة ممداني «اختبارٌ مبكّر للعلاقة بين الجناح التقدّمي والمؤسسة الديمقراطية»، حيث يغدو الموقف من إسرائيل معيارًا جديدًا لقياس حدود الليبرالية الأميركية.
9. دلالات مستقبلية
- انحسار الاحتكار السياسي للصهيونية داخل الجالية اليهودية الأميركية، وتنامي أصواتٍ ترى إسرائيل «دولة أجنبية يمكن نقدها لا كيانًا مقدسًا».
- توسّع الفجوة بين الأجيال اليهودية: الشباب الليبراليون يركزون على العدالة الاجتماعية، في حين يتمسّك الكبار بعقيدة «الوحدة القومية».
- إعادة تعريف العلاقة بين المسلمين واليهود في أميركا: ممداني قدّم نموذجًا لتفاعلٍ مدني يتجاوز الاستقطاب التاريخي.
- تأثير على السياسة الفيدرالية المقبلة: الحزب الديمقراطي مضطر لإعادة حساباته في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط لتفادي خسارة قواعده التقدمية.
10. الخاتمة
تُظهر تجربة زهران ممداني في نيويورك أنّ العلاقة بين الهوية اليهودية والسياسة الإسرائيلية في أميركا تمرّ بمرحلة إعادة تشكيل عميقة. فالدعم الذي حظي به من فئاتٍ يهودية لا يعني قطيعةً مع إسرائيل بقدر ما يعكس تطوّرًا في مفهوم الانتماء السياسي لدى الجيل الجديد.
إنّ الحرب على غزة شكّلت محرّكًا لهذا التحول، لكنها ليست سببه الوحيد؛ إذ يلتقي عندها شعورٌ متنامٍ بضرورة استعادة الأخلاق المدنية والعدالة الاجتماعية داخل الخطاب اليهودي الأميركي.
ومن ثمّ، يمكن القول إنّ «ظاهرة ممداني» ليست حدثًا انتخابيًا فحسب، بل علامةٌ على تغيّر البنية الأخلاقية والسياسية لليهود في الولايات المتحدة، وربما على بداية «سلامٍ داخلي» بين هويتين ظلّتا طويلًا في صراعٍ خفي: يهودية الشتات ويهودية الدولة.
مراجع ومصادر
The Guardian. “Jewish New York’s Reckoning with Zohran Mamdani: He’s Become a Vehicle for Our Tensions.” London, Oct 26 2025.
The Washington Post. “Zohran Mamdani’s Mayoral Candidacy Stirs Jews in New York – and Beyond.” Washington D.C., Oct 25 2025.
The Forward. “Meet the Jews Who Helped Elect Zohran Mamdani.” New York, Aug 2025.
Haaretz. “Zohran Mamdani Holds Lead among Jewish Voters for New York Mayor.” Tel Aviv, Aug 2025.
Ynet News. “At Least He’s Not a Hypocrite: 20 Percent of NY Jews Back Pro-BDS Muslim Candidate.” Tel Aviv, Oct 2025.
Israel Hayom. “Mamdani on the Way to Take Over New York? The Dramatic Support and the Attack from Israel.” Jerusalem, Sept 2025.
Jewish Voice for Peace Reports Archive (2025). Interviews with Progressive Jewish Activists in New York.
Times of Israel. “Jewish Political Organizers Grapple with Fallout from Mamdani’s NYC Primary Victory.” Jerusalem, Oct 2025.
Chatham House Brief Paper. “Egypt and US Strategy in Gaza after 2025.” London, Nov 2025 (لتحليل سياق غزة وتأثيره على اليهود الأميركيين).


