أخبارتقارير و تحقيقات

بين الشروط والاندفاع: كيف تنظر الرياض وأبوظبي والدوحة وأنقرة إلى مستقبل غزة؟


ترجمة: أبوبكر خلاف

يبدو أن مستقبل قطاع غزة لن يُرسم داخل حدوده فقط، ولا في القدس، بل أيضًا في الرياض وأبوظبي وأنقرة والدوحة. فمنذ إعلان وقف إطلاق النار، بدأت هذه العواصم الأربع تبحث موقعها في مرحلة “اليوم التالي” للحرب، كلٌّ وفق حساباته ومصالحه الإقليمية.

السعودية والإمارات، اللتان تمتلكان ثقلًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا، رحبتا بوقف النار وأعربتا عن أملهما في استقرار الأوضاع، لكنهما تُبديان حذرًا واضحًا تجاه الانخراط المباشر في أي خطة لإعادة إعمار غزة أو فرض ترتيبات أمنية فيها. هذا الحذر يتجلى في الشروط الصارمة التي وضعتها الدولتان لأي مشاركة فعلية: وقف دائم لإطلاق النار، انسحاب إسرائيلي تدريجي، نزع السلاح الهجومي من حركة حماس، ونقل الصلاحيات الإدارية إلى السلطة الفلسطينية أو إلى جهة تحظى بشرعية دولية.

من وجهة نظر الرياض وأبوظبي، فإن إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تكون مجرد مشروع إنساني، بل جزء من عملية أوسع لإعادة هيكلة الساحة الفلسطينية، تقوم على تقوية القوى المعتدلة وتقييد نفوذ الحركات الإسلامية.

على الجانب الآخر، تتحرك قطر وتركيا في الاتجاه المعاكس؛ إذ تبديان استعدادًا فوريًا للانخراط في جهود الإعمار دون اشتراطات مسبقة، مع حرصهما على بقاء حماس لاعبًا أساسيًا في معادلة “اليوم التالي”. هذا الموقف لا ينبع فقط من التعاطف السياسي، بل أيضًا من رغبة في توسيع النفوذ وتعزيز الحضور في ملفٍّ بات عنوانًا مركزيًا للسياسة الإقليمية.

في المقابل، تجد إسرائيل نفسها أمام معضلة استراتيجية متزايدة التعقيد. فكلما رفضت إشراك السلطة الفلسطينية في إدارة القطاع، وامتنعت عن تبني مسار سياسي مستدام يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح – وهو الشرط الذي تصر عليه الرياض وأبوظبي – ازدادت فرص أنقرة والدوحة لتثبيت نفوذهما في غزة، وبالتالي ضمان استمرار حماس في المشهد.

بهذه الصورة، تبدو غزة اليوم ساحة اختبار لموازين القوى الإقليمية: الخليج يشترط ويترقب، فيما تتحرك تركيا وقطر بسرعة لتثبيت الحضور والتأثير. وبين الحذر والاندفاع، يبقى القطاع عنوانًا مفتوحًا لتجاذب المصالح وتناقض الرؤى حول “اليوم التالي” لما بعد الحرب.

شروط ومواقف

لدى السعودية والإمارات روافع مهمة يمكن أن تكون مفيدة في عملية إعادة إعمار قطاع غزة: تمتلكان رأس مال ضخمًا، وخبرة إدارية مثبتة، وفي الحالة السعودية أيضًا رافعة دبلوماسية في صورة تطبيع تدريجي مع إسرائيل – ولكن فقط إذا تم تلبية متطلباتها في الشأن الفلسطيني ضمن عملية سياسية منظمة وبمرافقة أمريكية.

تشترط السعودية تدخلها في قطاع غزة، وبخاصة تحويل مساعدات مالية كبيرة لإعادة الإعمار ونقل السلطات من حماس إلى السلطة الفلسطينية، بتفكيك حماس من السلاح، أي نزع سلاح القطاع بطريقة تمنع عودة الإرهاب وانعدام الاستقرار. أما الإمارات، من جهتها، فهي تنشط حاليًا على نطاق واسع في المجال الإنساني، لكنها تؤكد أنها لن تحول مساعدات مالية كبيرة لصالح إعادة الإعمار من دون نزع السلاح، وإقامة بديل سلطوي متفق عليه، وكذلك إجراء إصلاح شامل في السلطة الفلسطينية يشمل حتى تغيير القيادة. بالإضافة إلى ذلك، وحسب التقارير، تراجعت الإمارات عن موافقتها السابقة التي منحتها لإدارة الرئيس بايدن للمشاركة في قوة أمنية متعددة الجنسيات ستُنشر في قطاع غزة، وذلك من بين أسباب أخرى خشية أن تُصاب قواتها وأن تُعتبر أنها تخوض حرب إسرائيل بالوكالة. وفي كل الأحوال، ترى الدول العربية مثل هذه القوة كقوة شرطة أكثر منها قوة عسكرية قتالية.

الصورة مختلفة بالنسبة لقطر. فـقطر هي إحدى اللاعبات المركزيات في تشكيل الواقع في غزة، وخاصة منذ الهجوم الإسرائيلي في الدوحة الذي أدى إلى تقارب متزايد بينها وبين الولايات المتحدة. في الواقع، تتحرك قطر في توتر بين إظهار الولاء للولايات المتحدة وبين الظهور كداعمة للقضية الفلسطينية عمومًا، وخصوصًا من خلال دعم حماس. على مر السنين، غذّت قطر وحماس بعضهما بعضًا: الدوحة وفرت لحماس الشرعية والمال، ومنظمة الإرهاب منحتها موطئ قدم ونفوذًا في القطاع. وبالفعل، يُقدّر أن قطر دعمت خطة ترامب، التي تتضمن بند نزع سلاح القطاع، من أجل ضمان استمرار نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة من خلال الحفاظ على قوة حماس. ومن وجهة النظر الأمريكية، تُعتبر قطر اليوم شريكًا موثوقًا ساعد في الضغط على حماس للموافقة على وقف إطلاق النار، لذلك فإن أي محاولة إسرائيلية للعمل ضد تدخلها في القطاع ستُعتبر مساسًا بالمصالح الأمريكية وبفرصة تنفيذ الخطة التي صاغتها الإدارة الأمريكية. في المقابل، تجد الرياض وأبوظبي صعوبة في قبول الدور المركزي الذي منحته الولايات المتحدة لكل من قطر وتركيا، وتريان فيهما منافستين مباشرتين على صياغة مستقبل غزة. ومن وجهة نظرهما، طالما تواصل قطر ضخ المساعدات إلى القطاع من دون شروط وتحتفظ بنفوذها على حماس، فسيكون من الصعب ترسيخ الاستقرار في غزة وقيام سلطة جديدة بدلاً من حماس.

حتى تركيا تُعتبر من قبل الولايات المتحدة جهة بنّاءة في إطار الجهود لتثبيت قطاع غزة، إذ مارست ضغوطًا على حماس للموافقة على خطة ترامب. إن دعم تركيا العلني لحماس أكثر وضوحًا من دعم قطر، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان شدد عدة مرات على أن الحديث ليس عن منظمة إرهابية بل عن “حركة تحرر”. في أعقاب الاتفاق على خطة تثبيت واستعادة إعمار غزة، عيّنت تركيا “منسقًا للمساعدات الإنسانية لفلسطين”، كان في الماضي رئيس وكالة الإنقاذ التركية. وأفادت وكالة الأنباء التركية “الأناضول” عن نحو عشرين منظمة تركية حكومية وغير حكومية قدمت مساعدات لغزة منذ اندلاع الحرب، وبعضها استأنف نشاطه هناك بالفعل. ورغم أن تركيا، شأنها شأن مصر، تسعى إلى الاستفادة من الأرباح المتوقعة لمشاريع إعادة الإعمار في القطاع (من دون المشاركة في التمويل)، يُشار إلى أن التبرعات التركية المستقلة أيضًا تُعد رافعة تأثير في القطاع. وترى تركيا نفسها ضامنة لأمن الفلسطينيين، ويُقدّر أنها تعهدت لحماس بأن مكانتها ستبقى راسخة (حتى وإن كانت تأثيراتها من وراء الكواليس) من أجل دفعها إلى قبول خطة ترامب. وكما زعمت تركيا على مر السنين أنها تؤدي دورًا مهدئًا على حماس وبالتالي لا ينبغي انتقاد علاقاتها معها، فهي تدّعي الآن أن تأثيرها سيؤدي إلى تغيير إيجابي.

من وجهة نظر إسرائيل، فإن هذا النهج التركي، إلى جانب سلسلة من الخطوات التي اتخذتها تركيا ضد إسرائيل – وأشدها إعلانها في مايو 2024 حظرًا تجاريًا كاملًا على إسرائيل – أدى إلى رغبة القدس في إقصاء تركيا عن وساطة إنهاء الحرب. ومع ذلك، فإن مساهمة تركيا في إقناع حماس بالموافقة على الخطة لإنهاء الحرب تجعل من الصعب إبعادها عن المشاركة في قطاع غزة، رغم أن إسرائيل أوضحت أنها تعارض إشراك قوات تركية في القوة المتعددة الجنسيات المخطط لها لتثبيت القطاع.

عوائق ومحفزات لتدخل السعودية والإمارات

إلى جانب استعداد تركيا وقطر للتحرك الفوري في القطاع، تتردد السعودية والإمارات في المشاركة المباشرة لأسباب عدة:

  • الخوف من خسارة الاستثمارات بسبب عدم الاستقرار المزمن في القطاع. تمتلك دول الخليج أيضًا – وربما أساسًا – مصالح اقتصادية ورغبة في تحقيق عائد لاستثماراتها.
  • ضغوط اقتصادية داخلية، خصوصًا في السعودية، على خلفية انخفاض أسعار النفط والالتزامات في ساحات سوريا ولبنان.
  • التنافس بين دول الخليج على القيادة في الساحة الفلسطينية، التي تتصدرها قطر. الرياض وأبوظبي أكثر حذرًا مقارنة بقطر فيما يتعلق بالتدخل.
  • القلق على الصورة لدى الرأي العام إذا اعتُبر التدخل في غزة تعاونًا مع إسرائيل في إقصاء الحقوق الفلسطينية، وذلك في ظل معارضة إسرائيل لعودة السلطة الفلسطينية للقطاع وللتقدم في “مسار مستدام” لإقامة دولة فلسطينية مستقبلًا.

في المقابل، قد تكون هناك محفزات محتملة لمشاركة دول الخليج في القطاع، مثل الضغط الأمريكي (وبالأخص من الرئيس ترامب نفسه الساعي لتثبيت إنجازه السياسي)، إلى جانب رغبة الرياض وأبوظبي في التأثير على البنية السياسية في غزة ومنع إعادة بناء وتعزيز مكانة حماس المرتبطة بالإخوان المسلمين. محفز إضافي قد يكون الفكرة القائلة إن التطبيع مع إسرائيل مقابل إعادة إعمار غزة سيُعزز مكانة دول الخليج وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.

مسألة التطبيع

فتح وقف إطلاق النار وبدء تنفيذ الخطة الأمريكية لإنهاء الحرب نافذة ضيقة لكنها ممكنة لتطبيع مستقبلي بين إسرائيل والسعودية وربما أيضًا مع دول إسلامية أخرى، شريطة أن يتقدم تنفيذ الخطة وتتحقق شروط المملكة وفي مقدمتها التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية. رسميًا، وبالنظر إلى البند في الخطة الذي يطالب بنزع سلاح حماس، فإن الولايات المتحدة أقرب إلى موقف الإمارات والسعودية، لكن من المحتمل أن التطورات الميدانية ستدفعها إلى مزيد من المرونة والتفهم للمطالب القطرية والتركية. من الممكن أن يؤدي الضغط الأمريكي إلى دفع السعودية والإمارات للمشاركة وتقديم جزء من أموالهما لإعادة الإعمار، وإن كان ذلك بشكل حذر ومحدود وفي إطار مقايضة تشمل أيضًا مواضيع أخرى. تقيم هذه الدول خطواتها بحذر: السعودية، خصوصًا مع الزيارة المتوقعة قريبًا لولي العهد إلى واشنطن، قد تربط مستوى تدخلها بالحصول على تعهدات لتزويدها بأسلحة أمريكية متقدمة، وتعزيز التعاون النووي، والحصول على ضمانات أمنية أمريكية. صحيح أن هذه “الجزرات” قد تزيد الدافع السعودي للمشاركة أكثر في غزة، إلا أن الحصول عليها مسبقًا قد يقلل من حافز السعودية للتطبيع مع إسرائيل – ما لم تربط الإدارة الأمريكية بين الموضوعين صراحة.

تحليل وسيناريوهات

  1. تدخل جميع الأطراف — سيناريو واقعي إذا استجابت إسرائيل لمطالب السعودية والإمارات كشرط لتدخلهما: إعادة السلطة الفلسطينية للقطاع والالتزام بحل الدولتين. في هذه الحالة ستوافق الرياض وأبوظبي على المساهمة في الإعمار بالتمويل والخبرة في عمليات نزع التطرف، وسيُمكنهما موازنة وتقليص الدور السلبي لقطر وتركيا. وإذا نشأ على المدى الطويل مجالان مختلفان في القطاع — أحدهما تحت سيطرة حماس والآخر تحت سيطرة أمنية إسرائيلية — يمكن للرياض وأبوظبي تقديم استثمارات خليجية طويلة الأمد لتثبيت البديل لحكم حماس، بشرط موافقة إسرائيل على إدخال قوات للسلطة أو المرتبطين بها.
  2. هيمنة قطرية–تركية — تتحقق طالما تمسكت إسرائيل برفضها للسلطة الفلسطينية وللتقدم في مسار حل الدولتين، بينما تفرض الولايات المتحدة تقدمًا سريعًا في إعادة الإعمار حتى دون نزع السلاح. هذا السيناريو الخطير يعزز نفوذ تركيا وقطر وحماس معًا ويعمق الانقسام الخليجي.
  3. الجمود — تواصل إسرائيل رفض شروط السعودية والإمارات وتنجح في صدّ ضغط أمريكي للإعمار دون نزع السلاح، ما يقلص أيضًا تدخل قطر وتركيا. فيبقى القطاع خارج مسار الإعمار وتستمر الأزمة الإنسانية والأمنية وتتحمل إسرائيل العبء منفردة.

خلاصة

في الرياض وأبوظبي لا يُلاحظ اليوم الشغف بتدخل مباشر في غزة. قد يكون دعمهما للمسارات الدبلوماسية خلال الحرب هدفه الأساس الضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب وفتح مسار سياسي جديد، لكن فعليًا — الضغوط الاقتصادية، التنافس الخليجي الداخلي، والنفور من التورط الزائد في الساحة الفلسطينية — تُؤخر خطواتهما العملية. المعنى الرئيسي لإسرائيل: طالما ترفض إشراك السلطة الفلسطينية أو الدفع نحو دولة فلسطينية منزوعة السلاح (كما تطلب السعودية والإمارات)، فإن قطر وتركيا ستكونان اللاعبتين الرئيسيتين في إعمار غزة، بما يضمن استمرار بقاء حماس. وتبقى المعضلة حتى إن بدأت إعادة الإعمار قبل النزع الكامل للسلاح في مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية؛ فغياب التمويل الخليجي سيجعل قطر المصدر الأبرز للتمويل، ما يمهد لعودة حماس للهيمنة لاحقًا.




المصدر: نشرة مباط عال رقم 2055 — 2 نوفمبر 2025

عن الكُتاب

يؤئيل غوجنسكي

د. يؤئيل غوجنسكي باحث كبير ورئيس برنامج الخليج في معهد دراسات الأمن القومي (INSS) وزميل أول (غير مقيم) في معهد الشرق الأوسط بواشنطن. ركّز على ملف إيران والخليج في مجلس الأمن القومي بمكتب رئيس الوزراء وخدم تحت أربعة رؤساء مجلس أمن قومي وثلاثة رؤساء وزراء. كما قدّم المشورة لوزارات بينها الشؤون الاستراتيجية والاستخبارات.

عوفر غوترمان

عقيد (احتياط) د. عوفر غوترمان باحث أول في برنامج “من صراع إلى تسويات” بـ INSS، وباحث كبير في معهد أبحاث منهجية الاستخبارات. خدم في مناصب بحث وتقييم عديدة في شعبة الاستخبارات العسكرية، بينها مساعد الاستخبارات للمستشار العسكري لرئيس الوزراء. يحمل دكتوراه من قسمي الشرق الأوسط والعلوم السياسية بجامعة بن غوريون، وماجستير في دراسات الأمن وبكالوريوس في اللغة والأدب العربي من جامعة تل أبيب.

غاليا ليندنشتراوس

د. غاليا ليندنشتراوس باحثة أولى في INSS ومحررة “التحديث الاستراتيجي”. تتخصص في السياسة الخارجية التركية المعاصرة، مع اهتمامات تشمل الصراعات العرقية، سياسة أذربيجان الخارجية، القضية القبرصية، والأكراد. نُشرت لها مقالات عديدة، وظهرت تعقيباتها في وسائل إعلام إسرائيلية ودولية مثل National Interest وHurriyet Daily News وTurkey Analyst وInsight Turkey. تحمل دكتوراه في العلاقات الدولية من الجامعة العبرية.

bakr khallaf

صحفي، مترجم وباحث في الإعلام والعلاقات الدولية، محاضر بجامعة إسطنبول التركية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews