الكهرباء في اليمن.. مطاردة الضوء في زمن العتمة

أمل صالح- مراسلين
تُعدّ اليمن من أوائل الدول العربية التي عرفت الكهرباء، إلا أنها ما تزال تصارع شبح الظلام، حيث تفاقمت المعاناة منذ اندلاع الصراع عام 2015، ما عمّق أزمة الطاقة وأدى إلى انقطاع شبه تام للكهرباء الحكومية خاصة في معظم المناطق الشمالية. ومع مرور الوقت، لجأ المواطنون إلى الألواح الشمسية، فيما ازدهرت تجارة الكهرباء التجارية في المدن.
أما في المحافظات الجنوبية، فالكهرباء الحكومية حاضرة ولكن بخجل. ففي عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً والعاصمة التجارية لليمن، ما تزال المدينة تغرق في ظلام الإهمال، رغم أنها كانت أول محافظة يمنية عرفت النور عام 1926 إبان الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن.
ظلام عدن
شهدت مدينة عدن نهاية أكتوبر الماضي انقطاعاً شاملاً للتيار الكهربائي استمر قرابة يومين، بعد أن أعلنت المؤسسة العامة للكهرباء أن القدرة التوليدية بلغت “صفر ميجاوات”، في إشارة إلى توقف تام للمحطات.
الانقطاع فجّر موجة غضب واسعة بين السكان، إذ لا تتجاوز ساعات التشغيل اليومية بين أربع وست ساعات فقط، وسط حرارة مرتفعة وأوضاع صحية متدهورة تتفشى فيها الحُمّيات والأمراض بسبب ضعف الخدمات.
مطاردة الوقت
تقول أم سالم، وهي من سكان عدن:
“إحنا عايشين في جحيم بسبب انطفاء الكهرباء المستمر، أولادنا ما يعرفوا يناموا من شدة الحر، وإذا رجعت الكهرباء نركض نلحق نغسل الملابس ونشحن البطاريات ونشغّل المروحة قبل ما تطفي من جديد”.
هذا المشهد بات روتيناً يومياً للأمهات في عدن، حيث يتحول وصول الكهرباء لساعتين فقط إلى سباق مع الزمن لإنجاز الغسيل، تشغيل الأجهزة، وتبريد المياه والأدوية، قبل أن تعود المدينة إلى العتمة مجدداً.
معاناة المرضى
رويدا (اسم مستعار)، شابة في الثلاثينيات مصابة بالسكري، تصف معاناتها مع انقطاع الكهرباء بالمجهدة، حيث ان ارتفاع الحرارة يزيد حالتها سوءاً، خصوصاً أن إبر الإنسولين تحتاج إلى تبريد دائم.
وتضيف أن “الانقطاع الطويل للكهرباء منهك، والجو في عدن خانق لا يُحتمل”.
صوت آخر
يقول عماد، صاحب استوديو تصوير في عدن:
“الكهرباء الحكومية ضرورية لنا، لكننا ندفع فواتير بأسعار تقارب الكهرباء التجارية، ورغم ذلك نعيش على ساعتين إلى أربع ساعات يومياً في التشغيل ، والباقي نعتمد على البطاريات التي تتلف بسرعة بسبب الحرارة”.

أسباب الانقطاع
أوضح المتحدث باسم المؤسسة العامة للكهرباء في عدن، نوار أبكر لشبكة “مراسلين”، أن الانقطاعات سببها الرئيسي نقص الوقود الذي تعتمد عليه محطات التوليد.
وأضاف أن توقف الإمدادات من شركة “صافر” وحقل “العقلة” النفطي أدى إلى خروج محطة “بترومسيلة” المركزية عن الخدمة، وهو ما تسبب بالانطفاء الكلي في عدن.

وبعد وصول كميات إسعافية محدودة من النفط الخام والديزل، أُعيد تشغيل بعض المحطات بقدرات جزئية، كما تم إدخال محطة شمسية جديدة للخدمة مؤقتاً.
وأوضح أن الحلول الحالية “إسعافية ومؤقتة”، مشيراً إلى أن متوسط التشغيل اليومي يتراوح بين 4 إلى 6 ساعات فقط، وأن إنهاء الأزمة يتطلب اتفاقيات دائمة لتوريد الوقود وتحديث المحطات القديمة والاعتماد على الطاقة المتجددة.
وتعتمد محطة الرئيس “بترومسيلة” في عدن بحسب المتحدث على النفط الخام وتصل قدرتها التوليدية الكلية إلى نحو 264 ميجاوات ،وحاليا تعمل بتوليد جزئي يتراوح بين 65 الى 80 ميجا لعدم وجود كميات كافية من الوقود ، فيما تعمل محطة المنصورة بقدرة تقارب 48 ميجاوات باستخدام وقود الديزل أو المازوت، أما المحطة الشمسية الجديدة فتغذي الشبكة بطاقة تصل إلى نحو 100 ميجاوات نهاراً فقط، في حين تعمل محطة الحسوة القديمة بقدرة منخفضة تتراوح بين 30 و40 ميجاوات، إلى جانب وجود محطات الديزل موزعة على عدد من المديريات تتراوح قدرتها بإجمالي 70 إلى 80 ميجا وات.

كهرباء صنعاء
في المقابل، لا يبدو الوضع في صنعاء أفضل حالاً، فالكهرباء متوفرة لكنها تجارية بالكامل بعد توقف الكهرباء الحكومية.
ويبلغ سعر الكيلووات نحو 275 إلى 350 ريالاً يمنياً، فيما تضطر الأسر محدودة الدخل إلى دفع ما لا يقل عن 10 دولارات شهرياً لتشغيل لمبات وشحن الهواتف فقط بحسب أمين مواطن يسكن في صنعاء.
بينما تقتصر خدمة الكهرباء التجارية في الغالب على المدن، في حين يعتمد سكان الأرياف على الطاقة الشمسية كمصدرٍ رئيسي للطاقة. غير أن هذا الحل لا يلبّي احتياجاتهم بالكامل، إذ اضطر كثيرون للاستغناء عن معظم الأجهزة الكهربائية والاكتفاء بتوفير الحد الأدنى من الإضاءة.

رأي خبير
يقول الدكتور مروان ذمرين، أستاذ بجامعة أوساكا ومدير مركز أبحاث أشباه الموصلات المشترك بين جامعة أوساكا اليابانية وشركة تويو ألمنيوم ، إن أزمة الكهرباء في اليمن ليست آنية، بل هي نتاج تراكمات هيكلية على مدى سنوات.

ويرجع السبب الرئيسي إلى اعتماد محطات الكهرباء بشكل شبه كامل على الوقود السائل كالديزل أو المازوت أو النفط الخام، وهي مواد مكلفة وغير مستقرة في الإمداد، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة التي تمر بها البلد.
السبب الثاني حسب قوله هو التهالك الكبير في الشبكة الكهربائية وفقدان كفاءة المحطات القديمة، ما يؤدي إلى فواقد تتجاوز 30% من الطاقة المنتجة. كما أن سوء إدارة الأحمال، وغياب الصيانة الدورية، وضعف التمويل الحكومي كلها عوامل تجعل أي تحسّن مؤقت سرعان ما يتلاشى.
حلول مقترحة
يقترح ذمرين خطة لمعالجة مشكلة الكهرباء في اليمن على مرحلتين:
على المدى القصير:
إنشاء مشاريع طاقة شمسية بقدرات متوسطة (100–300 ميجاوات) موزعة جغرافياً.
تركيب بطاريات ليثيوم ضخمة لتخزين الطاقة النهارية واستخدامها ليلاً.
على المدى الطويل:
إنشاء محطات غازية كبرى بقدرات تفوق 5 جيجاوات.
تطوير شبكة كهرباء ذكية تربط المحافظات الجنوبية.
استغلال الطاقة الشمسية والرياح لتقليل الاعتماد على الوقود.

التحول إلى الطاقة الشمسية
ارتفاع أسعار الكهرباء وضعف الدعم الحكومي دفع غالبية اليمنيين إلى الاتجاه نحو الطاقة الشمسية، التي يرى ذمرين أنها أدّت دورًا مهمًا في تخفيف معاناة المواطنين، وساهمت أيضًا في إنعاش النشاط الصناعي في بعض المناطق. رغم أن انتشارها لا يزال يواجه تحديات مثل غياب التشريعات، والظروف المناخية القاسية، وضعف الرقابة على جودة المكونات.
لكنه أشار إلى وجود توجه حكومي ملحوظ بعد الانقطاعات المستمرة للكهرباء نحو استخدام أنظمة الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم. ويؤكد أن الطاقة الشمسية مع بطاريات الليثيوم العملاقة هي خيار المستقبل لضمان استقرار منظومة الكهرباء وتقليل الاعتماد على الوقود.
نحو حل جذري
يؤكد ذمرين الحاصل على 70 براءة اختراع في مجال الطاقة الشمسية، أن الحل الحقيقي يكمن في التحول إلى مزيج طاقة متوازن يجمع بين: الطاقة الشمسية مع أنظمة البطاريات العملاقة كمصدر أساسي على المدى القريب والمتوسط. وإنشاء محطات تعمل بالغاز الطبيعي كمصدر مرن لتغطية الذروة الليلية وضمان استقرار الشبكة على المدى الطويل.
كما أكد على أهمية استغلال طاقة الرياح في بعض المناطق المناسبة، لتعزيز التنوع في مصادر الطاقة.
وهذا المزيج برأيه لن يحدث بدون وجود خارطة طريق وطنية واضحة، واستقرار سياسي وإداري يتيح تنفيذ المشروعات الكبرى. ويضيف “من دون إصلاح مؤسسي حقيقي في قطاع الكهرباء، سيبقى أي تقدم مؤقت ومحدود الأثر”.
تظل معاناة اليمنيين مع انقطاع الكهرباء واحدة من أبرز ملامح أزمتهم المستمرة منذ أكثر من عقد، لاسيما في المناطق الساحلية التي تعاني ارتفاعًا شديدًا في درجات الحرارة، ما يضاعف من مشقة الحياة اليومية.
وبين وعودٍ مؤجلة وحلولٍ إسعافية مؤقتة، يبقى الأمل قائماً في أن تستعيد اليمن نورها الحقيقي… لا فقط عبر عودة التيار واستدامته، بل عبر عودة الأمان والاستقرار.




