تقارير و تحقيقات

من بوابة الشاه إلى رمز العاصمة: حكاية برج آزادي الذي لا يشيخ

علي زم – مراسلين

في غرب طهران، عند مدخلها الجنوبي نحو المطار، يقف برج آزادي شامخًا مثل بوابةٍ بين زمنين؛ بين إيران الشاه وإيران الثورة، بين ماضٍ كان يفاخر بحداثته، وحاضرٍ يعيد قراءة رموزه القديمة بعين جديدة.

من يزور طهران لا يحتاج إلى دليلٍ ليدله على هذا البرج، فصورته محفورة في ذاكرة المدينة مثل توقيعٍ لا يمحى، تظهر على العملات، والطوابع، وأحلام المراهقين الذين يلتقطون صورهم أمامه منذ عقود.

بُني برج آزادي عام 1970، بتكليف من الدولة احتفالًا بالذكرى 2500 لتأسيس الإمبراطورية الفارسية، وبتصميم المهندس الشاب آنذاك حسين أمانت، الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. كان حلمًا معمارياً جريئاً جمع بين ثلاثة عصور من تاريخ إيران: من الأقواس الأخمينية إلى الزخارف الساسانية وصولًا إلى الهندسة الإسلامية التي تزيّن سقوف المساجد.

صُمّم البرج بارتفاع نحو 48 مترًا، منها خمسة أمتار تحت الأرض، على شكل قوسٍ عملاق يرمز إلى الانفتاح والتلاقي، في ساحة بيضوية تُعدّ من أوسع ساحات العاصمة، تبلغ مساحتها نحو 78 ألف متر مربع. وقد استُخدم في بنائه أكثر من 25 ألف قطعة حجر و900 طن من الحديد، في إنجازٍ استغرق ثلاثين شهرًا فقط.

لكن البرج لم يُعرف باسمه الحالي منذ البداية. فقد كان يُدعى “برج شهياد” – أي ذكرى الشاه – قبل أن يتبدّل اسمه إلى “آزادي” (الحرية) عقب الثورة الإسلامية عام 1979، ليغدو رمزًا لجمهورية جديدة أرادت أن تُعيد تعريف مفاهيمها عن الهوية والحرية في آنٍ واحد.

ومع تبدّل الأسماء، بقي البرج صامدًا في مكانه، شاهداً على التحولات الكبرى التي شهدتها إيران المعاصرة: من احتفالات الشاه الفخمة إلى تظاهرات الثورة، ثم إلى الاحتفالات الجماهيرية وعروض النوروز التي تملأ ساحته كل ربيع.

ورغم ظهور برج ميلاد في السنوات الأخيرة كأطول بناء في البلاد، لم يفقد برج آزادي مكانته الرمزية. فميلاد يُنظر إليه كرمز للتكنولوجيا الحديثة، بينما يبقى آزادي أقرب إلى القلب، لأنه يحمل ذاكرة المدينة وسيرة تحولاتها.

في استطلاعات الرأي المحلية، يختاره أغلب سكان طهران باعتباره الرمز الأول للعاصمة، متقدمًا على القصور والمتاحف وحتى برج ميلاد نفسه.

الهندسة المعمارية للبرج ليست مجرد مزيج من أساليب قديمة وحديثة؛ بل هي محاولة لترجمة فكرة “إيران” نفسها إلى شكلٍ بصري.

الزخارف الحجرية الدقيقة على جسده الخارجي تستلهم نقوش المساجد الصفوية، بينما يتقاطع داخله بين الضوء والظلّ في إشارةٍ إلى جدلية الروح والمادة التي عرفتها العمارة الفارسية عبر القرون.

حتى تصميم الساحة المحيطة به اقتُبس من القبة الداخلية لمسجد الشيخ لطف الله في أصفهان، لكن بطريقة هندسية حديثة تقطع الدائرة إلى شكلين متقابلين ببؤر مختلفة، في إيماءة إلى فكرة التوازن بين القديم والجديد.

داخل البرج، يمتدّ عالم آخر. هناك متحف ومكتبة ومركز ثقافي بمساحة تتجاوز خمسة آلاف متر مربع، وقاعات للمؤتمرات والعروض والموسيقى.

يضمّ المكان أكثر من خمسين ألف كتاب، وقاعة مخصصة للباحثين متصلة بشبكات الإنترنت، إضافةً إلى تجهيزات سمعية وبصرية كانت عند تأسيسه من بين الأحدث في إيران.

الداخل يختلف عن الخارج؛ فبينما يحتفظ الحجر الأبيض برصانته الفارسية، تذكّرك الممرات الداخلية بسرداب معاصر يفتح أبوابه نحو السماء عبر مصعدين يؤديان إلى أعلى القوس، حيث يمكن للزائر أن يرى طهران كلها ممتدة تحت قدميه.

يقول أحد المهندسين الذين رمموا الموقع في العقد الماضي: “برج آزادي ليس مبنى فحسب، بل هو سرد بصري لتاريخ إيران كله في قطعة حجر”.

وربما لهذا السبب تحديدًا ظل البرج حاضرًا في وجدان الإيرانيين حتى اليوم. فمن الصعب أن تمرّ بجانبه من دون أن تشعر أن المكان يحكي شيئًا عنك، عن مدينتك، عن تلك الازدواجية التي تلازم الإيرانيين بين الحنين إلى الماضي والرغبة في التقدم.

عند غروب الشمس، تتسلل أشعة الضوء عبر أقواس البرج فترسم ظلالاً تشبه أجنحة من حجر. هناك، في تلك اللحظة القصيرة، يبدو “برج الحرية” فعلاً كأنه يطير، حاملاً ذاكرة نصف قرن من أحلام الإيرانيين وأسئلتهم التي لم تهدأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews