حين تتصارع الأرقام مع الواقع… هكذا يعيش المجتمع التركي تحت ضغط المعيشة اليوم

ريتا الأبيض – مراسلين
الواقع المعيشي كما يعيشه الناس… لا كما يظهر في الأرقام
في نهاية عام يمتلئ بالتصريحات الحكومية عن تراجع التضخم وتحسن مؤشرات النمو واستقرار الأسواق، يبدو الشارع التركي كأنه يعيش حياة مختلفة تماماً عن تلك التي تُعرض على المنصات الاقتصادية وفي خطابات المسؤولين، المواطن العادي الذي يخرج صباحاً إلى عمله ويتنقل بين الأسواق عندما يدفع فواتيره الشهرية لا يتعامل مع النسب المئوية التي تعلنها المؤسسات الرسمية، بل مع تكلفة معيشته اليومية التي أصبحت أكثر عبئاً وتعقيداً، الأمر الذي يجعل من حجم الفجوة كبيرة بين لغة البيانات التي تبعث التفاؤل ولغة الواقع التي تتطلب قدرة أكبر على الاحتمال.

الأسواق تتحرك بلا توقف… والمواطن يراقب دخله يتآكل
من يدخل اليوم إلى أي متجر أو سوبرماركت في إسطنبول أو المدن الكبرى الأخرى يشعر أن الأسعار تتحرك بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، فكل زيارة للسوق تكشف عن زيادة جديدة في السلع الأساسية، بعضها تُفرض تحت مبررات التوريد، النقل أو ارتفاع التكلفة، وبعضها الآخر يأتي نتيجة استغلال التجار للظروف المتقلبة، وبين هذا وذاك يجد المواطن نفسه في معركة يومية مع الفواتير ومع محاولات ضبط ميزانيته التي تتآكل رغم ثبات دخله أو حتى زيادة بسيطة تذوب فور وصولها بسبب سرعة تغير الأسعار، وكأن الأسواق تسير في اتجاه خاص بها لا يخضع لإيقاع الدولة ولا لآليات الرقابة التي يفترض أن تضبط هذا التصرّف.

الإيجارات… الهمّ الأكبر في حياة الأسر التركية
أزمة الإيجارات هي الأكثر قسوة على المجتمع التركي في الوقت الراهن، فالقفزات الكبيرة التي شهدها قطاع العقار خلال العام جعلت الكثير من العائلات عاجزة عن البقاء في منازلها، واضطرت للإنتقال إلى مناطق أبعد وأرخص، أو العودة للعيش مع الأقارب بعد سنوات طويلة من الاستقلال، إذ أصبح من غير الممكن مطابقة الإيجار الجديد مع الدخل المتاح، لم تعد الأسر قادرة على التوفيق بين دفع الإيجار، شراء الطعام وسداد الفواتير، ما جعل السكن مسألة مقلقة للغاية، ليس لأنها ضرورة فقط، بل لأنها تضغط على كل جانب من جوانب حياة الناس، وهي أزمة لا يبدو أنها في طريقها إلى التراجع القريب رغم الوعود المتكررة بإطلاق مشاريع إسكان اجتماعي.
الطعام… معركة يومية بين القدرة والحاجة
إذا كان السكن يستهلك الجزء الأكبر من دخل الأسرة، فإن الطعام يستهلك ما تبقى، فالعائلات التركية باتت تتعامل مع التسوّق بوصفه تحدياً حقيقياً، حيث تتغير الأولويات الغذائية وتُلغى الكثير من الخيارات التي كانت أساسية في السابق، وأصبح الناس يشترون حاجاتهم وفق حسابات دقيقة خوفاً من تجاوز ميزانية بالكاد تكفي لأسبوع واحد، فأي زيارة بسيطة لمحل الخضار أو لمحل بيع اللحوم تكشف حجم العبء الذي يعانيه المجتمع، فالمواد التي كانت ضرورية أصبحت ثقيلة، والسلع التي كانت متاحة للجميع باتت محصورة في فئات محدودة، ما أدى إلى تغيّر واضح في عادات الأكل ونمط الحياة بشكل عام.

الشارع يتكلم… والقلق حاضر في كل مكان
في المواصلات العامة، في طوابير الدفع، على أبواب الدوائر الرسمية، وحتى في الأحاديث العابرة بين الغرباء، تتردد نفس الجمل التي تشير إلى أن الناس منهكة من الضغوط، فالقلق الاقتصادي لم يعد مجرد شعور داخلي بل أصبح حديثاً عاماً يتشاركه الجميع، الكبار والصغار، الموظفين، العمال، ربات البيوت وحتى الطلاب، الجميع يتساءل عن كيفية تجاوز هذه المرحلة الصعبة دون خسارة الاستقرار الذي يحاول كل فرد الحفاظ عليه، فالناس يشعرون أن حياتهم تتغير خارج إرادتهم، وأنهم يواجهون موجة من الغلاء لم يعد بالإمكان تجاهل تأثيرها على نفسيتهم وعلى قدرتهم على التخطيط لأي شيء في المستقبل القريب.
الإنسان قبل الأرقام… ماذا يريد المواطن فعلاً؟
إن حاجة المواطن اليوم ليست إلى بيانات نمو ولا إلى توقعات إقتصادية مستقبلية، بل إلى معيشة مستقرة ثابتة لا تتقلّب أسبوعياً، الفرد يريد أن يعيش دون قلق من نهاية الشهر، يريد أن يجد إيجار مقبول دون صدمة، يريد أن يشتري طعامه دون أن يضطر لحسابات طويلة، ويريد قبل كل شيء أن يشعر أن الجهد الذي يبذله في عمله يترجم إلى حياة كريمة، لا إلى سباق مستمر مع ارتفاع الأسعار، فالمجتمع كما يراه الناس في شوارعهم يحتاج إلى طمأنينة يومية أكثر مما يحتاج إلى خطابات اقتصادية، ويحتاج إلى حلول ملموسة أكثر من الحاجة إلى لغة مفعمة بالتفاؤل.

نهاية العام… أمل مؤجل وانتظار ثقيل
مع اقتراب نهاية العام يشعر الناس بأنهم يتحركون داخل زمن ثقيل لا يمنحهم فرصة لالتقاط أنفاسهم، فيترقبون لحظة تخفّ فيها الضغوط التي تراكمت فوق رؤوسهم، ويأملون أن تتبدل ظروفهم نحو قدر أكبر من الراحة، سواء في ما ينفقونه على مساكنهم أو ما يحتاجونه يومياً داخل بيوتهم، فالكثيرون ينتظرون مستوى معيشياً لا يرهقهم عند كل خطوة، ويسعون إلى يوم يمر بلا مفاجآت قاسية تفرضها الأسعار أو التكاليف، وعندما تتراجع هذه الأعباء ولو قليلاً يشعر المجتمع بأن الحياة عادت للسير بإيقاع يمكن احتماله، وأن المستقبل لم يعد مجرد مصدر توتر بل مساحة يمكن التفكير بها من دون الخوف الذي رافقهم طوال العام.



