تقارير و تحقيقات

“آسيا”.. بيدٍ واحدة تتحدى الإعاقة وتصنع فناً ينتصر على الواقع

أمل وحيش- خاص مراسلين

قد تتوقف الحياة في عمرٍ معين وعند حدوث حدثٍ ما، وقد يتوقف بك الزمن عند كلمة أو موقف، ولكن أن يتوقف بك الزمن في عمر الرابعة ليصنع منك شخصًا قويًا رغم المعوقات، شخصًا منفردًا بهيئتك وشخصيتك وأسلوبك في الحياة، فذلك هو الإعجاز بعينه.

في السنة الرابعة من عمر قصتنا، توقفت عقارب الساعة لتتحدث قليلًا مع ضيفٍ ثقيلٍ تطفّل على حياة الأسرة السعيدة، واختار من بينها “آسيا” لتكون ضحيته. لكنه لم يكن يدرك أنه اختار الإرادة بحدّ ذاتها، ولم يعلم أنه اختار شعلة من النشاط وروحًا تعشق الحياة.

لم تستسلم “آسيا الذبحاني” بطلة قصتنا للحمى الشوكية، لا هي ولا عائلتها التي كانت السند والداعم الأول لشخصيتها وموهبتها. فقد كانت ابنة تعز وما تزال شامخة كشموخ مدينتها.

تعرضت آسيا للحمى الشوكية التي أفقدتها الحركة وأوقفت نمو جسدها في مرحلة معينة، إلا أن حب العائلة أحاطها، واستطاع الأطباء في صنعاء إعادة جزء من قدرتها على الحركة — ولو بشكل بطيء — إلا أنه كان الجزء الذي أبقاها على قيد الأمل.

من هي آسيا الذبحاني؟

آسيا أمين الذبحاني، مواليد ديسمبر 1994، من منطقة ذبحان بمحافظة تعز، ترتيبها الرابع بين إخوتها. أُصيبت بالإعاقة وهي في الرابعة من عمرها عندما باغتتها الحمى الشوكية، لتكتب السطر الأجمل في حياتها رغم الألم، مؤكدة أن الإعاقة الجسدية ليست النهاية، بل بداية سطر جديد من الإبداع والتحدي، ولتبقى الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر لا الجسد.

انتقلت آسيا مع عائلتها من ريف تعز إلى المدينة لتلقي العلاج، ثم إلى العاصمة صنعاء حيث استقر بها المقام منذ طفولتها، وتم علاجها بنسبة 50%. فبينما فقدت القدرة على المشي، استطاع الأطباء — بمساندة وحب عائلتها — إعادة حركة نسبية لذاك الجسد المحب للحياة.

آسيا الشابة الخجولة بطبعها، الكريمة في حديثها، المثقفة حين تتحاور معها، المخلصة في عملها، لا تكاد تستسلم لتقلبات الحياة ولا لانتكاس وضعها الصحي بين حين وآخر، لكنها ما تزال تشعّ حبًا وشغفًا وأملًا بأن القادم أجمل. شعارها الرضا بما كُتب لها، والاقتناع بأن إعاقتها منحة ربانية صنعت منها فنانة مرهفة الإحساس تجسد لنا لوحات تحكي قصصًا من الإبداع والسلام.

تقول آسيا لشبكة “مراسلين” إن الإعاقة أثرت كثيرًا في جوانب حياتها خصوصًا في ظل الأوضاع التي تمر بها اليمن:
“الإعاقة أثرت في كثير من الجوانب، خصوصًا في الأوضاع الحالية في اليمن؛ لأن حياة الشخص العادي شبه معقدة، فكيف بذوي الاحتياجات الخاصة؟” إلا أن الحياة مستمرة… وكذلك صبرها وتحديها.

تحديات مجتمعية

لا شك أن آسيا — كغيرها من ذوي الإعاقة في اليمن — واجهت العديد من التحديات كإنسانة وكفنانة طموحة في مجتمع يتجاهل حتى الأشخاص العاديين، فكيف بذوي الهمم؟
وتقول إن أكبر تحدٍ تواجهه كفنانة تشكيلية هو صعوبة مشاركتها في المعارض الدولية بسبب التكاليف الباهظة للسفر، إضافة إلى ضعف الوعي الفني لدى المجتمع والجهات المعنية التي لا تولي ذوي الإعاقة الاهتمام الكافي.
وتعلّق على نظرة البعض للرسم بقولها:
“يُنظر للرسم وكأنه شخبطة… ورقة وقلم بلا قيمة، وما يأكلش عيش.”

ومن التحديات أيضًا ارتفاع أسعار أدوات ومعدات الرسم، التي لا تتوفر غالبًا إلا بطلبها من خارج اليمن. إلا أن ذلك كله يهون أمام نظرة المجتمع القاسية تجاه ذوي الإعاقة. كما أثرت الظروف السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد على نفسية المجتمع والفنانين عمومًا.

معاناة مرحلة الدراسة

أنهت آسيا المرحلة الثانوية بعد سنوات من العناء والتحدي، وسط رفض بعض المدارس قبولها لعدم وجود أقسام مخصصة لذوي الهمم، وعدم وجود معلمين مؤهلين للتعامل مع هذه الفئة. وبعد جهد وظروف صحية صعبة، استطاعت تجاوز الثانوية وحاولت الالتحاق بالجامعة، إلا أن البيئة المحيطة حالت دون ذلك.

يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة في اليمن من غياب أماكن مهيأة للكراسي المتحركة داخل الجامعات. وتروي آسيا أنها ذهبت للتسجيل في إحدى الجامعات فوجدت صعوبة كبيرة في التنقل بين القاعات، وطلبت منها الجامعة إيجاد حل بنفسها!. ذلك الموقف أثّر في نفسها، فنشرت شكواها على فيسبوك، لكنها تعرضت لعنف لفظي أشد من بعض المعلّقين الذين قالوا لها إن بقاءها في المنزل أفضل لأنها من ذوي الإعاقة.

لكن تلك المحطة لم تكن نهاية الطريق، بل بداية لفنانة مرهفة الإحساس أثرتنا برسومات تضجّ بالحياة والحب. عادت آسيا لموهبتها التي رافقتها منذ الصغر، وطورت نفسها بدورات عن بُعد مع كبار الفنانين اليمنيين، وعلى رأسهم الفنان ردفان المحمدي الذي تعتبره قدوتها الأولى. كما تمتن للفنان عبدالله المجاهد الذي اكتشف موهبتها وآمن بها، واثقًا أنها ستصل للعالمية باستمرارها وقوة إرادتها.

بيد واحدة يولد الجمال

تستخدم آسيا يدًا واحدة للرسم بسبب الإعاقة، وتعدّها النعمة الكبيرة التي منحها الله لها، لأنها استطاعت بها أن تعبّر عن الجمال المحيط رغم قسوة الواقع.
تستلهم معظم أفكار رسوماتها من الكتب والقصائد والأحداث، لتتخيل المشهد ثم تسقطه على لوحة ليست ممزوجة بالألوان فحسب، بل بكل إحساسها وصدقها.

وفي كل لوحة ترسمها آسيا، تعبر نفسها — ونعبر نحن معها — إلى عالم آخر من الجمال. فكل لوحاتها قريبة إلى قلبها، وإن كانت لوحة “رُقي التراث” هي الأكثر شهرة، حيث تسافر بين دول عدة ممثلة جمال القمرية اليمنية وجمال المرأة ولباسها بين التقليدي والمعاصر.

الفن في سلة الإهمال

كان للفن التشكيلي يومًا ما حضور واسعًا في اليمن باعتباره لغة للتعبير عن الجمال ومناقشة القضايا. لكن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية جعلت الفن في الهامش، ولم يعد مصدر دخل حقيقي، فاليمني منشغل بتأمين لقمة العيش، بينما اللوحات أصبحت كماليات. ورغم الوضع المحبط، تستمر آسيا بالرسم، معتبرة إياه متنفسها الوحيد، وتقول :

 “أستمر وأقدم فني لمن يقدّر الفن فعلًا.”

مشاركات

شاركت آسيا في معارض محلية ودولية، وعُرضت أعمالها في السعودية والأردن ومصر وأمريكا وتركيا وهولندا. وكل تجربة كانت دافعًا للاستمرار والسعي لإيصال رسالتها البصرية للعالم. ورغم النظرة القاصرة لدى بعض أفراد المجتمع تجاه ذوي الإعاقة، ترى آسيا أن لكل حلمٍ صاحبه، ولكل إرادة طريقها مهما كانت الظروف. وتقول عن ردة فعل زوار المعارض التي تشارك فيها عند معرفتهم بأنها صاحبة اللوحات:

“كثير من الزوار ينبهرون عندما يعرفون أني صاحبة اللوحات.”

ماذا يعني الرسم لآسيا؟

“الرسم هو ما علّمني أن لآسيا رسالة، وأن للفن قوة وتأثيرًا.”

هكذا تختصر آسيا رؤيتها للرسم. تميل إلى الفن التجريدي أكثر من غيره، وترى أن الفن نافذة تقول من خلالها للعالم: “أنا هنا… وطموحي لا يعترف بالحدود، حتى لو بيد واحدة فقط.”

تأثير الحرب

تأثرت آسيا بالحرب، خصوصًا من الناحية المادية؛ فأدوات الرسم مكلفة ولا تتوفر بسهولة. كما أن عدم تقدير مجهودها من قِبل البعض الذين يستهينون بعمل الفنان التشكيلي، ويستكثرون أسعار اللوحات الفنية، يجعلها تعتذر عن الرسم لكل من يقلل من أهمية وقيمة الفن. ولأن الفن ليس مصدر دخل ثابت، لجأت إلى العمل عن بُعد في مجال التسويق الإلكتروني، لثبتت أن الإعاقة قد تكون سُلّمًا لا حاجزًا.

لحظة فخر

تعرفت وسائل الإعلام المحلية والعربية على آسيا بسبب شخصيتها الفريدة وقوتها وجمال موهبتها حيث أجريت معها العديد من اللقاءات التي سلطت الضوء على موهبتها وعزيمتها التي لا تنكسر.
تقول بفخر:
“من أكثر اللحظات التي أفتخر بها عندما تواصلت معي قناة الجزيرة لإجراء مقابلة مباشرة، وكذلك مشاركتي في معارض دولية خارج اليمن.”

طموح لا ينتهي

تقول آسيا:

“أطمح أن يكون لي مشروع فني خاص ومعرض دولي يحمل اسمي وأعمالي.”

وهذا أقل ما تطمح إليه الفنانة ذات اليد الواحدة واللوحات المتعددة النابضة بالحياة.

رسالة أمل

“صحيح أن الحياة فيها إحباطات كثيرة، لكن الأمل والإصرار هما طريقنا لتحقيق أحلامنا.”

بهذه العبارة تؤكد آسيا أن الحياة مستمرة رغم الإعاقة، وأن الطموح لا يتوقف. وتوجّه رسالة لذوي الإعاقة:

“كل شخص لديه حلم، وبالإرادة والطموح يتحقق… حتى لو بيد واحدة فقط.”

تبقى قصة آسيا واحدة من آلاف القصص الملهمة التي تثبت أن العزيمة قد تهزم المستحيل، وأن الإرادة الحقيقة تصنع قصة كفاح ملهمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews