حين يصبح الابن شهيدًا والمدينة جرحًا..محمد اليوسف في طريق الحرية وحكاية الطريق الذي لم يُغلق

شريف فارس- خاص مراسلين
سوريا- خسر محمد يوسف ابنه الوحيد، وخسر مدينته، وخسر ماله ومشاريعه، لكنه لم يخسر إيمانه بأن الحرية تستحق هذا الثمن. في معركة فتح الحصار عن حلب، سقط يوسف “النمر” شهيدًا تحت قصفٍ روسي استهدف مقر “كتيبة أحرار المشهد”، ليُكمل الأب رحلته مثقلاً بالفقد، ثابتًا على طريق اختاره منذ اللحظة الأولى لانطلاق المظاهرات.
محمد يوسف، ابن منطقة الأنصاري – حي المشهد، كان قبل الثورة متعهد مشاريع مياه مع مؤسسة المياه في حلب، بالشراكة مع المهندس ماجد أشقر. أنجز مشاريع كبرى لمدّ شبكات المياه في عين العرب والخفسة بريف حلب، وامتلك بواكر ومضخات وصهاريج ومعدات ثقيلة، وضع فيها كامل رأسماله. حياة مستقرة انتهت مع أول رصاصة أُطلقت على المتظاهرين السلميين في حيه.

مع بدايات الحراك، شاهد محمد المظاهرات في المشهد تتحول فجأة إلى ساحة نار. كان ابنه يوسف إلى جانبه. لحظتها، لم يعد يرى في المتظاهرين غرباء؛ رآهم أبناءه جميعًا. بدأ بإسعاف الجرحى إلى المراكز الطبية، وحين لاحظ اعتداء سيارات إسعاف حكومية على المصابين، حاصرها مع الأهالي، وأنزل الجرحى ونقلهم بسيارات خاصة إلى ممرضين يثق بهم الحي. من ذلك اليوم، ترك أعماله كلها، وبدأ نشاطه الثوري ضد نظامٍ رآه يقتل أبناء الناس أمام عينيه.
مع دخول الجيش الحر إلى حلب، كان محمد سندًا لتأمين الممرات. جمع ما تبقى من ماله، اشترى سلاحًا، وأسّس مع شباب الحي “كتيبة أحرار المشهد”. تولّى ابنه الوحيد يوسف قيادتها، ولقّبوه بـ“يوسف النمر” لشجاعته واندفاعه. كان الابن أكثر حماسة من أبيه، فيما كانت الأم تلوم محمد خوفًا على وحيدها، لكنه كان يرى في دماء الشباب التي تسيل أبناءً له لا يمكن تركهم.
مع تنظيم الجيش الحر، اعتمد محمد على يوسف لقيادة الكتيبة، بينما التحق هو بلواء التوحيد، مستفيدًا من خبرته في الآليات الثقيلة لبناء السواتر وتأمين نقاط الاشتباك. سعى لجلب معدات وبواكر جديدة، لكن سيطرة “قسد” و”داعش” عليها تسببت بخسارة مالية كبيرة لم توقفه عن الاستمرار.
في مدرسة المشاة، وأثناء تجهيز ساحات تدريب ومقرات للواء التوحيد، تعرّض الموقع لهجوم جوي عنيف، أُصيب فيه محمد ومن معه، واستُشهد القائد عبد القادر الصالح. لاحقًا، تولّى محمد رئاسة مجلس حي كرم الجورة، ومدّ يد العون للأهالي في الإغاثة والسكن والمساعدة، رغم القصف والحصار.
وجاءت اللحظة الأقسى مع معركة فتح الحصار الأولى. قصفٌ روسي دمّر مقر كتيبة أحرار المشهد. هرع محمد لإسعاف الجرحى، ليتفاجأ بابنه بين المصابين. دقائق قليلة، واستُشهد يوسف بين يديه. كانت لحظة قيامة شخصية، وسط رعب القصف والفقد، لم يعرف بعدها كيف يجمع نفسه.
رغم ذلك، واصل مع رفاقه مساعدة أهالي حلب المحاصرة بالمياه والمواد الإغاثية وتأمين السكن للنازحين، ما زاد إصراره على مواصلة النضال. لكن الخروج من حلب كان صدمة أخرى. السياسة فرضت الرحيل، فغادر حزينًا مع عائلته إلى سلقين بريف إدلب، مثقلاً بفقد ابنه ومدينته، ومعه عائلة كبيرة لا تملك إلا الإصرار.
في سلقين، اضطر لترك العمل المسلح. أصبح المعيل الوحيد لنحو خمسة عشر فردًا: زوجته، بناته، وأحفاده الأيتام. عمل بصعوبة، وواجه ضيق المعيشة والمرض وتقدّم السن وضعف البصر. كان اليأس يزوره، لكن صورة ابنه ووجوه أحفاده كانت تعيده واقفًا.
مع بدء معركة التحرير، شعر محمد بأن النصر قريب. جهّز عائلته للعودة إلى حلب، رغم شكوكهم. تابع أخبار المعارك ساعة بساعة، ولو لا المرض والعمر، لكان في الصفوف الأولى. وبعد التحرير، استدان أجرة الطريق، ودخل حلب في اليوم الأول. لم تصدّق عيناه المشهد: منزله محروق، وبيت ابنه مدمّر، وكل الذكريات تحت الركام.
لم يسأل عن شيء. قصد قبر ابنه في مقبرة شيخ جاكير، والطيران لا يزال في السماء. وقف هناك، وأخبر يوسف أنهم عادوا مرفوعي الرأس، وأن البلاد تحررت.
يقول محمد اليوم إنه لم يناضل طلبًا لمنصب أو جاه، ولو أراد ذلك لناله، لكن النصر يكفيه. يؤمن أن بناء سورية يحتاج صبرًا، وأن الأحياء التي دفعت أثمانًا باهظة من الدم والدمار تستحق أولوية واهتمامًا خاصين.
رسالته للشباب واضحة: من عاش الكرامة يعرف معنى النصر. ولو عاد الزمن ألف مرة، لاختار الطريق ذاته. تعلّم أن النصر لا يأتي سريعًا، وأن الحرية لا تُنال بسهولة، لكن لحظة سقوط الطغيان تُثبت أن التضحيات لم تذهب سدى.
سورية اليوم حرّة، وما بقي هو أن تُبنى كما حلم بها أبٌ قدّم ابنه، ومضى واقفًا.




