مقالاتمقالات

الاستبدال الجلي الخفي

بقلم د. أحمد أحمد

هناك حقيقة كبرى تحكم وجودنا، لا يغفل عنها العقل السليم، لكنها تُنسى أو يتم تناسيها ما بين الغفلة وطول الأمل. إنها ما أسميه الاستبدال الجلي الخفي: ذلك القانون الذي يقضي بأن يُستبدل جيل بجيل، وأن تُنقل الحياة من مجموعة إلى أخرى، دون ضجيج أو إعلان، في صمت يليق بسنن الله في كونه.

في بدايات العمر، تبدو الحياة وكأنها لا تنتهي. نرى الموت يطال الكبار، فنظنه شأنًا يخصهم وحدهم، ونمضي نحن في طريقنا غافلين. غير أن الحقيقة أن الرحلة واحدة، وأن كل نفس تتحرك على السكة ذاتها، وما موت الكبار إلا تذكير خفي بما ينتظرنا.

غير أن الإنسان، بعقله الواعي، يتعامل مع هذه الحقيقة بطريقة متناقضة. يراها تحدث أمامه كل يوم في غيره، لكنه يرفض أن يراها في نفسه. وهذا هو جوهر الخفي في هذا الاستبدال الجلي: أنه واضح إلى حد البداهة، لكنه لا يُدرك إلا حين يطرق بابنا مباشرة.

قد يظن البعض أن إدراك هذا القانون يجعل الحياة قاتمة أو يزرع اليأس. لكن الحقيقة أن الوعي بالاستبدال الجلي الخفي لا يقتل الأمل، بل يحرره من الوهم. حين ندرك أن أعمارنا محدودة، نصبح أكثر حرصاً على ما تبقى. نتوقف عن تأجيل كل شيء إلى “غدٍ” لا نملكه، ونصير أكثر ميلاً إلى المعنى لا إلى الزيف.

إن الغفلة عن المصير تجعل الإنسان يعيش كأنه خالد، فيتعلق بالتفاصيل التافهة ويؤجل المهم. أما اليقظة فهي أن نحيا ونحن نعلم أننا عابرون، فنزرع أثراً إيجابياً، أو كلمة، أو موقفاً يبقى بعدنا.

ذلك الوهم بالخلود ليس سوى غطاء نفسي يحمي الإنسان من رعب النهاية، لكنه في الوقت نفسه يحرمه من النظر في جوهر الوجود: أن العمر رأس مال قصير، وأنه منذ اللحظة الأولى للولادة بدأ العد التنازلي لنهايته.

يبدأ التحول حين نسمع بموت من هم في أعمارنا. عندها ندرك أن الطابور لا يميز بين كبير وصغير، وأن كل واحد في هذا الركب يسير بخطى ثابتة نحو مصيره. حين يموت الأقران، تتساقط الأقنعة: لا مفر من الاستبدال، ولا مهرب من النهاية. إن هذا القانون ليس خاصًا بالإنسان، بل يشمل كل ما في الكون: الليل يُستبدل بالنهار، والفصول تتعاقب، والحشائش تتحول إلى هشيم ويأتي غيرها مكانها، وكذا أوراق الشجر، والأمم تتوارى ليخلفها غيرها. حتى النجوم لها أعمار تنطفئ عند نهايتها. ومع ذلك يصرّ الإنسان على أن يتوهم استثناءً لنفسه، حتى إذا باغته الموت أدرك بعد فوات الأوان أنه كان يعيش في غفلة طويلة، فيسارع إلى طلب وقتٍ إضافي وكأنها مباراة لكرة القدم ظن وقته الضائع سيُحسب له لا عليه، ولكن هيهات هيهات ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ أرجِعُونِ ، لَعَلِّىٓ أَعْمَلُ صالِحا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّآ ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [آلمؤمنون: 99-100].

إن أخطر ما في هذا الاستبدال أنه يُنهي فرصة العمل، فإذا جاء الموت انقطع الأمل والعمل، ولم يبقَ إلا ما خلّفناه وراءنا. جاء في الحديث الشريف:

«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم].

فمن منظور الإيمان، الموت ليس نهاية مطلقة، بل هو انتقال من مرحلة الغرس والعمل إلى مرحلة الجزاء والحصاد. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185].

الاستبدال في الدنيا إذن ليس فقط تعاقب أجيال، بل هو أيضًا إحالة إلى المحكمة الكبرى حيث يُحاسب كل إنسان على ما قدّم. فهنا دار عمل، وهناك دار جزاء. هنا نزرع بأفعالنا وأقوالنا ومواقفنا، وهناك نحصد نتائج ما زرعنا، خيرًا كان أم شرًّا. ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾ [الزلزلة: 7-8].

بهذا المعنى، يدرك المؤمن أن كل يوم يعيشه ليس مجرد خطوة نحو الاستبدال، بل هو رصيد يودع في حسابه الأخروي. فما يفعله في خلوته وجلوته، في سره وعلنه، كله محفوظ في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

حين نستوعب أن الموت هو باب للآخرة، يتغير منظورنا للحياة كلها. لم تعد غايتنا مجرد المتاع الزائل أو المنصب العابر، أو إرضاء الحكام أو حتى فلان وعلان، بل صار همّنا الأكبر أن نغتنم الفرصة القصيرة قبل الاستبدال، ونجعل من أيامنا القليلة زادًا ينفعنا في اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].

إن إدراك الاستبدال الجلي الخفي من زاوية إيمانية يجعلنا أكثر خشية، وأعمق مسؤولية، وأصدق في أعمالنا. نغتنم اللحظة لأنها قد تكون الأخيرة، ونزرع الخير لأننا نعلم أن ثمره سنجده في دار لا تزول.

هذا الإدراك لا يعني أن نستسلم أو نتقوقع في انتظار النهاية، بل أن نعيد ترتيب أولوياتنا. ولا أقول بأن ننسى نصيبنا من الدنيا بما يُرضي الله، فنحن مستخلفون لعمارة الأرض بالحق. وكما جاء في الأثر (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا).

إن الاستيعاب المبكر لهذه الحقيقة يعطينا فرصة حقيقية لاتخاذ القرارات الصائبة، ويجعل مرجعيتنا أخروية لا دنيوية في الحكم على كل أمور حياتنا، ويجعل مواقفنا أكثر اتساقاً مع الحق لا المصلحة الدنيوية الزائلة. لو التزمنا بذلك كأمّة لما بقي للظلم والظالمين مكان بيننا، لأن التصحيح كان سيأتي سريعاً، فلا خوف من قول الحق، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولم نكن لنركن إلى أحلام اليقظة، ولا إلى التغيير الذي سيأتينا من عالم الغيب، ولما أُشربنا الوهن ولما زالت هيبتنا من قلوب أعدائنا، فهل نحن متعظون؟

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews