أخبارتقارير و تحقيقات

السودان ونهب التاريخ

ممدوح ساتي/ السودان

أعلنت منظمة اليونسكو عن سرقة أكثر من أربعة آلاف قطعة أثرية من المتحف القومي في الخرطوم وعدد من المتاحف الأخرى، في واحدة من أكبر الخسائر التي يتعرض لها التراث السوداني منذ اندلاع الحرب. هذا الإعلان المفاجئ أثار صدمة واسعة في الأوساط الثقافية والبحثية، إذ اعتُبر ما جرى بمثابة نزيف للذاكرة الإنسانية لا يقتصر أثره على السودان وحده، بل يمتد ليصيب التراث العالمي كله.

من تماثيل الملوك الكوشيين التي كانت شاهدة على أبهى عصور وادي النيل، إلى المخطوطات المسيحية والمصاحف الإسلامية المزخرفة، وحتى المجوهرات النادرة التي خُزنت في “غرفة الذهب” بالمتحف القومي… كلها باتت بين منهوب أو مدمَّر أو مفقود، لتتحول المتاحف السودانية إلى ساحة فراغ يصرخ بما تبقى من ذاكرة التاريخ.

المتحف القومي بالخرطوم: قلب الذاكرة السودانية

ماذا كان يحتوي؟

أدوات حجرية من العصور السحيقة، تجسّد بدايات الإنسان في وادي النيل.

مقتنيات من حضارة كرمة، أولى الممالك الانسانية المعروفه.

آثار نبتة ومروي، بما في ذلك تماثيل ضخمة ونقوش حفرية وقطع ذهبية فريدة.

لوحات ومخطوطات مسيحية تعود إلى ممالك النوبة.

مصاحف مزخرفة وعملات وآثار من العصور الإسلامية والدولة السنارية.

مقتنيات مميزة من عهد الدولة المهدية.

“غرفة الذهب” الشهيرة، التي ضمت مجوهرات وتحفاً نادرة.

ما الذي فُقد أو تضرر؟

نهب شبه كامل للمجوهرات والقطع الذهبية.

تحطيم صناديق العرض وسرقة محتوياتها.

تكسير متعمد لبعض القطع الصغيرة والزجاجية.

بقاء التماثيل الضخمة فقط لصعوبة نقلها.

رحلة عبر التاريخ المفقود

عند النظر إلى مقتنيات المتحف القومي، نجد أنها لم تكن مجرد معروضات، بل خريطة زمنية لتاريخ السودان بأسره. فقد احتوى على أدوات حجرية من العصر الحجري القديم، ثم فخار وتماثيل مملكة كرمة (2500–1500 ق.م). بعدها جاءت آثار نبتة (900–270 ق.م) وتماثيل ملوكها مثل بعانخي وتهارقا. أما مروي (270 ق.م–350م) فقدمت أهراماً صغيرة وتماثيل برونزية ومجوهرات مذهلة. ومن ثم آثار الممالك المسيحية النوبية، بلوحاتها الجدارية ومخطوطاتها الكنسية. يليها تراث الدولة السنارية الإسلامية بمصاحفها المزخرفة وعملاتها. وأخيراً مقتنيات الدولة المهدية التي تجسّد مرحلة المقاومة ضد الاستعمار.

شهادات سودانية عن الكارثة

أكدت إدارة المتاحف أن ما جرى كان “نهباً شاملاً”، إذ خرجت شاحنات محملة بالقطع الأثرية من الخرطوم نحو الغرب والجنوب. بينما وصف خبراء التراث ما حدث بأنه كارثة تاريخية لا يمكن تعويضها، ليس فقط من حيث القيمة المادية، بل من حيث ضرب جذور الهوية الوطنية السودانية.

مواقع البجراوية والمدينة الملكية: الكنز المهدّد

خلال زيارتها الأخيرة، شددت بعثة اليونسكو على أهمية حماية مواقع البجراوية والمدينة الملكية المسجلة على قائمة التراث العالمي منذ 2011. هذه المنطقة تحتضن أكثر من 200 هرم ملكي ومعابد ومقابر فخمة من حضارة كوش. لكنها اليوم تواجه أخطاراً مركبة: الحرب، التغير المناخي، الفيضانات والزحف الرملي.

التحديات التي تعرقل الحماية والاسترداد

  1. غياب الأمن وضعف الحماية الميدانية.
  2. فقدان السجلات التي توثق القطع.
  3. ازدهار السوق السوداء للآثار المهربة.
  4. تدمير متعمد لبعض القطع لمحو الهوية الثقافية.

جهود الحماية والاسترداد

خطة طوارئ من اليونسكو لمدة عامين لدعم التوثيق، التدريب، مكافحة الاتجار غير المشروع، وترميم المتاحف المتضررة.

التنسيق مع الإنتربول لتعقب القطع المهربة.

تعاون وطني ودولي لحشد الدعم الفني والمالي.

رفع الوعي المجتمعي باعتبار التراث مسؤولية جماعية.

لم تعد الحرب في السودان صراعاً على الأرض فقط، بل أصبحت معركة على الذاكرة نفسها. فسرقة وتدمير الآثار ليست مجرد فقدان لمقتنيات، بل محو لسجل الحضارات التي ازدهرت على ضفاف النيل. التحدي اليوم أمام السودانيين والمجتمع الدولي هو أن يحوّلوا هذه الكارثة إلى نقطة انطلاق لحماية ما تبقى، واسترداد ما ضاع، حتى تبقى حضارة كوش وممالك النوبة وسنار والمهدية شاهدة للأجيال القادمة على أن التاريخ لا يموت… إلا إذا سمحنا له أن يُسرق.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews