عندما تُصبح الطائفة رهينة الزعامة: قراءة في مأزق دروز السويداء

شبكة مراسلين
بقلم: الصحفي خالد الجدوع
السويداء اليوم ليست مجرد محافظة سورية خارجة عن سيطرة الدولة المركزية، بل باتت تُجسّد أزمة مركّبة تتداخل فيها العوامل الطائفية والسياسية والدينية والاجتماعية، وفي قلب هذه الأزمة تقف الطائفة الدرزية أمام مفترق تاريخي بالغ الخطورة: بين البقاء ضمن مشروع الدولة السورية الواحدة، أو الانزلاق إلى مسار انعزالي تفككي محفوف بالمخاطر.
لقد شهدت الفترة الأخيرة تحوّلًا نوعيًا في موقع الزعامة الدينية لدى الدروز، وعلى رأسها مشيخة العقل، من دورها الروحي التقليدي إلى فاعل ميليشياوي مسيّس، ما أحدث شرخًا عميقًا بين الطائفة والدولة، وبين الزعامة والمجتمع الدرزي نفسه. ومع تسارع الأحداث، واتساع التدخلات الخارجية، وظهور شعارات تعبر عن انفصال رمزي وفعلي، باتت الطائفة رهينة خيار أُحادي تمثله قيادة مشيخة العقل، وتدفع أثمانه الباهظة شريحة واسعة من أبناء جبل العرب.
بين المرجعية الدينية والسلطة الميليشياوية:
شهدت الزعامة الدينية في السويداء، ممثلة بمشيخة العقل، تحولا خطيرا في موقعها الروحي التقليديإلى محور قرار أمني وعسكري، يتجاوز حدود الوظيفة الدينية إلى ممارسة فعل سيادي داخل المحافظة، فقد أصبح الشيخ حكمت الهجري يتحكم بمفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، ويصدر القرارات الحاسمة نيابة عن أبناء الطائفة، دون آليات تمثيل حقيقية أو مدنية.
هذا التحوّل خلق واقعًا معكوسًا؛ إذ لم تعد الزعامة الدينية “مرجعية”، بل “مُصادرة”، تسلب من الطائفة حقّها في تنوع الآراء والمواقف، وتحتكر المشهد بوصفها الناطقة الوحيدة باسم “الجبل”. وعند كل منعطف وطني، بدا أن المشيخة تعمل ككيان موازٍ للدولة، معزّز بقوة ميليشيوية، لا كجسر للتواصل مع الدولة الوطنية.
مشروع انفصال ناعم تحت غطاء “الخصوصية“
بعيدًا عن الخطاب المباشر للانفصال، يجري في السويداء تنفيذ مشروع انفصال ناعم عبر خطوات تدريجية تنطلق من فكرة “الخصوصية الدرزية” وتصل إلى بنية إدارية وشبه سياسية منفصلة عن دمشق. تتجلى هذه العملية في تشكيل لجان محلية ونقابات موازية، وإعلان قرارات إدارية من خارج مؤسسات الدولة.
ويُلاحظ هنا تقاطع هذا المشروع مع دعم واضح من ميليشيا “قسد”، التي توفر المال والسلاح والخبرات اللوجستية، في إطار سياسة كردية عامة تقوم على خلق كيانات محلية منعزلة تضعف المركز وتُجهض أي مشروع وطني موحّد.
في هذا السياق، جاء رفع علم إسرائيل مؤخرًا في السويداء، ليس كمجرد فعل رمزي، بل كبيان سياسي واضح يدل على الوجهة الإقليمية والدولية التي يُراد للطائفة أن تتّجه نحوها، على وقع تهديدات العزل الطائفي والانفصال الفعلي.
التهجير الجماعي للبدو… وتفكك العقد الاجتماعي
من أخطر ما شهده الجنوب السوري مؤخراً هو التهجير الجماعي الممنهج لآلاف العائلات من أبناء بدو السويداء السنّة، عبر حملات تضييق واعتداءات مسلّحة شملت إحراق القرى وسلب المواشي وإغلاق الطرقات.
هذا التهجير العرقي لا يمكن عزله عن سياق تفكيك النسيج الاجتماعي في الجنوب السوري، وهو ينذر بانهيار العقد الوطني بين مكونات المجتمع. وبهذا، أصبحت الطائفة الدرزية في موقع المُدان، لا بفعلها المجتمعي، بل بسبب قرار ميليشياوي مغلق، أضرّ بسمعتها وعلاقاتها التاريخية مع البيئة المحيطة، وفتح الباب أمام خطاب جديد لا يرى في السويداء شريكًا وطنيًا، بل خصمًا انفصاليًا.
الدعم الخارجي وخرائط التحالف المشبوهة
تكشّفت خلال الأشهر الأخيرة خيوط تنسيق عميق بين مشيخة العقل وجهات خارجية، أبرزها ضباط إسرائيليون من دروز الـ48، ووساطات مباشرة مع الأمن الإسرائيلي، تزامنت مع قصف استهدف مواقع عسكرية في السويداء بطلب مباشر من الهجري، وتعدى الأمر لقصف مقر قيادة الأركان في دمشق، ومحيط القصر الجمهوري.
تجاوز التدخل الإسرائيلي مرحلة المراقبة والتحريض، لينتقل إلى تدخل عسكري فعلي عبر استهداف مواقع حكومية في لحظات الاشتباك، ما يُعيدنا إلى سيناريوهات الانفصال جنوب لبنان، عندما شكلت “رابطة القرى” رأس الحربة للتقسيم بدعم إسرائيلي مباشر.
ولم يعد خافيًا اليوم أن ملف السويداء يُدار ضمن توازنات إقليمية تتصل بإيران، وواشنطن، وتل أبيب، حيث تُستخدم الطائفة كورقة ضغط داخل لعبة أكبر، لا علاقة لها بالمصالح الحقيقية لأبناء الجبل.
سقوط السويداء اقتصاديًا وخدماتيًا
في ظل هذا المسار الانفصالي، تعاني السويداء من انهيار شامل في كل مقومات الحياة: كهرباء، ماء، أمن، طحين، وبات المواطن في السويداء ضحية فوضى إدارية ومليشياوية، إذ تعيش المحافظة واحدة من أسوأ أزماتها الخدمية والمعيشية منذ عقود، في ظل غياب شبه كامل للدولة، وفشل الإدارة المحلية البديلة التي تحاول فرضها الزعامة الدينية.
في الوقت ذاته، تشهد الأسواق ارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار، دون وجود أي جهة رقابية. الليرة السورية في الجبل لا تجد من يحترم قيمتها، وبدأت تظهر بوادر التعامل بعملات بديلة أو المبادلة بالسلع مباشرة، في مشهد يعيد إلى الأذهان ظروف المجتمعات الخارجة عن القانون.
والأخطر من ذلك أن النقابات والمؤسسات الرسمية بدأت تفقد الاتصال كليًا بالمركز في دمشق. فمعظم الهيئات المهنية تعمل بشكل مستقل أو لم تعد موجودة أصلًا، ما يُشير إلى انفصال إداري فعلي، لا مجرد اعتراض سياسي.
كل هذا يحدث بينما تروّج مشيخة العقل لمشروع “إدارة ذاتية غير معلنة”، لا تملك بنية مؤسساتية حقيقية، بل ترتكز على شبكات ولاء ميليشياوية وجهوية، تستنزف الموارد ولا تقدّم بديلًا فعّالًا.
وهكذا، فإن المواطن الدرزي في السويداء لا يجد نفسه فقط خارج الدولة، بل خارج الحياة ذاتها.
الانقسام الداخلي داخل الطائفة الدرزية
لم تعد الطائفة الدرزية كتلة واحدة خلف مشيخة العقل، بل ظهرت أصوات وطنية بارزة ترفض النهج الميليشياوي، مثل ليث البلعوس، نجل وحيد البلعوس، الذي طرح خطابًا مختلفًا يدعو إلى الانفتاح على الدولة والوطن، ورفض أي ارتهان خارجي.
كما برزت ملامح خلاف حاد بين دروز الداخل الذين يرزحون تحت عبء الفقر والضغط الأمني، ودروز الخارج في فلسطين ولبنان الذين يدعمون مشروع الانفصال دون أن يدفعوا ثمنه.
هذا التباين خلق شرخًا عميقًا داخل الطائفة نفسها، وأعاد النقاش حول الفارق بين “الطائفة” و”الزعامة”، حيث بدأت أصوات داخل الجبل تعيد النظر في الشرعية السياسية للقيادة الدينية الحالية.
المأزق الاستراتيجي للطائفة وأفق الحل
تواجه الطائفة الدرزية في هذه اللحظة خيار صعب للغاية، فهي أمام مشروعين متناقضين:
إما العودة إلى حضن الدولة السورية عبر تسوية وطنية تحفظ كرامتها ومكانتها دون سلاح أو ميليشيا، أو المضي في مشروع انعزالي لن يؤدي إلا إلى العزلة، والفقر، والاقتتال، والارتهان للخارج.
إن الثمن الذي ستدفعه الطائفة في حال استمرار هذا النهج سيكون باهظًا: انهيار تام للعلاقات الاجتماعية، وصراع طويل مع البيئة السنّية المحيطة، وتحول الجبل إلى منطقة نفوذ إسرائيلي في خاصرة سوريا الجنوبية.
وفي ظل هذه المآلات، تبقى الحاجة ماسة إلى خيار وطني جامع، يتجاوز الزعامة الحالية، ويعيد بناء العلاقة بين الطائفة والدولة، على قاعدة العدالة، والشراكة، واحترام الخصوصية دون تفكك.
خاتمة:
لم تعد الأزمة في السويداء شأنًا محليًا داخليًا، بل تحوّلت إلى عقدة وطنية وأمنية تمسّ مستقبل سوريا ووحدتها. فحين تتحوّل الزعامة الدينية إلى أداة ميليشياوية، وحين تُختطف طائفة بكاملها لصالح مشروع خارجي، فإن السؤال لم يعد عن “الطائفة” فقط، بل عن مستقبل الدولة السورية ككل.
وإذا كانت مشيخة العقل اليوم تحتكر القرار، فإن التاريخ يُعلّمنا أن الشعوب تبقى، والزعامات تتبدل، والخيارات الخاطئة لا تمنح الحماية بل تدفع إلى الهلاك. فهل تستعيد الطائفة عقلانيتها التاريخية؟ وهل تدرك أن “الخصوصية” لا تعني “الانفصال”، وأن الزعامة ليست قدَرًا أبديًا؟
السويداء على مفترق طرق، وأي تأخير في اتخاذ القرار الوطني الصحيح، سيكون ثمنه دمًا جديدًا وانقسامًا لا رجعة منه.
_______________________________________________
المقال يعبّر عن رأي كاتبه فقط، ولا تتحمّل الشبكة مسؤولية مضمونه.