آفاق نهاية الصراع في فلسطين

شبكة مراسلين
بقلم د. أحمد أحمد
يتحدث البعض عن كون الصراع في فلسطين صراعاً صِفرياً، بينما يصر البعض الآخر على ضرورة الابتعاد عن تحويله إلى صراع صفري لأن ذلك قد يعني الهزيمة الكاملة للفلسطينيين وتصفية القضية بالكامل بالنظر إلى موازين القوى الدولية والوضع العربي الشعبي الخامل والحكومي الذي يصل في بعض الحالات إلى حد التماهي مع العدو، ومن هذا المنطلق يرى هؤلاء ضرورة حوار العقلاء من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للخروج بصيغة تفاوضية تحقق نوعاً من مطالب الطرفين لتجنب نهاية كارثية قد تقع على أحدهما أو كليهما.
لا بد من توضيح المفاهيم قبل أن نناقش بعمق الخيارات الموجودة، ولنبدأ بتوضيح معنى
الصراع الصفري أو ما يُعرف بـ “اللعبة الصفرية” (Zero-Sum Conflict) فهو نوع من الصراعات أو التفاعلات يكون فيه مكسب طرف معين مساويًا تمامًا لخسارة الطرف الآخر، فلا توجد حلول وسط أو ربح مشترك لكلا الطرفين، فتفكير طرفي النزاع قائم على “إما نحن أو هُم”، فهل ينطبق هذا بالضرورة على الصراع الفلسطيني الصهيوني على أرض فلسطين؟
وهنا ننتقل إلى محاولة توصيف الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، هل هو احتلال لنهب الثروات والسيطرة على موقع استراتيجي كما كان الاحتلال البريطاني لمصر والهند أم احتلال استعماري إحلالي يهدف إلى السيطرة على كل شئ وتهميش بل والتخلص من السكان الأصليين كما كان الاستعمار الكولونيالي البريطاني في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا، والبريطاني الهولندي في جنوب أفريقيا؟
إن الاستعمار الكولونيالي هو نوع من الاستعمار يُشير إلى السيطرة المباشرة لدولة قوية (الاستعمارية) على إقليم أو شعب في منطقة أخرى، غالبًا بهدف الاستيطان، والاستغلال الاقتصادي ،والسياسي والثقافي. يتميّز هذا النوع من الاستعمار بإرسال مستوطنين من الدولة المستعمِرة إلى الأراضي المحتلة، وسلب السكان الأصليين حقوقهم وأراضيهم ومواردهم، مع القمع الثقافي واللغوي للسكان الأصليين عبر فرض أنظمة الحكم والتعليم التي تخص المستعمِر عليهم، فلا اعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم ولا أي سيادة لهم، فهم يصبحون في نظر المستعمِر عبئاً يجب التخلص منه، ولا يستبقي منهم إلا بالقدر الذي يحتاجه من عمالة رخيصة لاستمرار مصانعه ومزارعه، فهو السيد على هذه الأرض المستعمَرة والسكان الأصليون ليسوا إلا معدات بشرية يستخدمها كيفما شاء ويتخلص منها متى شاء، فهذا الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، لا يسعى للتقاسم بل للإقصاء والسيطرة الكاملة.
إن كون قدوم موجات الهجرة الصهيونية المنظمة التي بدأت تستقر في فلسطين منذ عام ١٨٨٢ جاءت على يد جماعات وليس عبر دولة استعمارية لا ينفي صفة الاستعمار الكولونيالي عنها، فهذه الجماعات استعملت جميع الأدوات الاستعمارية لتحقيق أهدافها، واتكأت في ذلك على قوة دولة استعمارية عظمى في ذلك الوقت وهي بريطانيا. فهل بعد هذا الوصف يبقى أدنى شك بأن الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو من نوع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي؟!
والآن بعد فهم طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي وإسقاطه على الوضع في فلسطين، فلننظر إلى مآلات استعمارات مشابهة لكي نستقرئ ما يمكن أن يؤول إليه الوضع في فلسطين، تتلخص هذه المآلات في ثلاثة أمثلة:
١- الانتصار الكاسح للمستعمِر: نموذج الاستعمار البريطاني في أمريكا حيث تم سحق السكان الأصليين عبر القتل المباشر والأمراض والتنكيل والتهجير، حتى أصبحت لا تتعدى نسبتهم ٣٪ من السكان، وحدث الإحلال الكامل وتمت السيطرة الكاملة للقوة المستعمِرة.
٢- الفشل وخروج المستعمِر: نموذج الاحتلال الفرنسي للجزائر، والذي فشل بالرغم من محاولات التوطين الكبيرة للفرنسيين والعديد من أوروبيين آخرين كالإسبان والطليان والمالطيين في الجزائر حتى بلغوا ١١٪ من السكان، مع محاولات تغيير اللغة والنسق المعماري والثقافة خلال أكثر من ١٣٠ عاماً، ضحى خلالها الشعب الجزائري بأكثر من ١٠٪ من أفراده لنيل الاستقلال وطرد المستعمرين، فغادر أكثر من ٩٠٪ من هؤلاء المستعمرين خلال شهر من نيل الاستقلال.
٣- الوصول إلى صيغة للتعايش: نموذج جنوب إفريقيا، حيث الاستعمار البريطاني والهولندي وسيطرتهم على بقية السكان الأصليين مع الفصل العنصري الممنهج ضدهم، ولكن مع الضغط الدولي المتزايد وافق المستعمرون البيض على وقف الفصل العنصري وتشاركوا السلطة مع السكان الأصليين ضمن دولة واحدة ديمقراطية.
إن المتابع لتصرفات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومن قبلها العصابات الصهيونية على أرض فلسطين يرى بوضوح رغبة الصهاينة في تحقيق نتيجة النموذج الاستعماري في أمريكا، فهم يرون في استمرار الوجود الفلسطيني تهديداً لوجودهم وبالتالي نموذج الصراع الصفري، حيث ترفض الغالبية الساحقة من الإسرائيليين قيام دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية غربي نهر الأردن، وكل طروحات السلام من أقصى توجهاتهم اليسارية لم تتجاوز إما السلام الاقتصادي وتحسين ظروف المعيشة أو الحكم الذاتي الموسع مع مسمى دولة منزوعة السلاح، لا تملك سيادة كاملة لا على حدودها، سمائها، مواردها الطبيعية أو حتى سياستها الخارجية، ودون عودة للاجئين ودون عودة إلى حدود ١٩٦٧ ولا إعادة للقدس الشرقية تحت السيادة الفلسطينية، ولا تفكيك للمستوطنات الكبرى مثل أريئيل ومعاليه أدوميم وغوش عتسيون، فإذا كانت هذه هي أفضل العروض من أكثر الصهاينة رغبة في السلام وهم قلة فما بالك ببقية الشعب الإسرائيلي؟
إن تشبث الفلسطيني بأرضه رغم كل الحروب والتضييقات والتهجير منذ النكبة مع بقاء نسبة الفلسطينيين ٥٠٪ من مجمل السكان على أرض فلسطين التاريخية (نقصد بذلك ما يُعرف الآن بدولة إسرائيل، الضفة الغربية وقطاع غزة) هو أكبر عائق أمام تحقيق هذا النموذج الإحلالي الكامل، فهل سيستمر هذا الصمود إلى ما لا نهاية؟ نسبة نجاح هذا النموذج ضئيلة ولكنها ممكنة إذا استمرّ التخاذل الشعبي والحكومي العربي والعالمي أمام التوحش الإسرائيلي في غزة وما سيتبعه في الضفة الغربية.
أما نموذج الجزائر فتحقيقه أصعب في الحالة الفلسطينية ولكنه ليس بالمستحيل، وتتجلى الفروق في الحالتين كما يلي:
١- انقسام داخلي فلسطيني أعمق من الانقسامات في الجزائر حول طريقة إدارة الصراع مع الاحتلال، فبينما كانت هناك بعض الأحزاب الجزائرية تفضل تعزيز الحقوق ضمن الدولة الفرنسية مثل الحزب الشيوعي الجزائري وكذلك حزب البيان والحرية في بداياته قبل أن يلتحق بركب الثورة، ومن عُرفوا بالحركيين فإن معظم هذه الأصوات، باستثناء الحركيين، لحقوا بركب الثورة الجزائرية المطالبة بالاستقلال عندما اشتد عودها أو على أقل تقدير لم يجرؤوا على رفع الصوت المعارض لها، بينما في الحالة الفلسطينية فقد خلق اتفاق أوسلو نخبة قيادية منتفعة من إدارة الاحتلال وبقائه ولا تسعى أبداً للصدام معه بل التعايش مع وجوده لضمان امتيازاتها، فأصبحوا مع عناصر أجهزتهم الأمنية أقرب إلى “الكافو” (Kapos) وأترك للقارئ عناء القراءة عن الكافو ليرى إلى أي حضيض وصل هؤلاء.
٢- الدعم الغربي الواسع لإسرائيل، بل يكاد يصل إلى الدعم اللامحدود خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، بينما لم تكن أي دولة تساعد فرنسا في حربها في الجزائر كما تفعل أمريكا مع إسرائيل.
٣- غياب أي ضغط دولي فعال رغم الإدانات الكثيرة التي لا تصل أبداً إلى فرض أي عقوبات اقتصادية ناهيك عن التلويح بأي تدخل عسكري لوقف الجرائم الإسرائيلية، بينما كانت الثورة الجزائرية تحصل على دعم عسكري وسياسي من الصين والكتلة الشرقية في ذلك الوقت.
٤- ازدياد التطرف واليمينية الدينية داخل المجتمع الإسرائيلي وانعكاس ذلك على تركيبة الكنيست والحكومة الإسرائيلية الحالية، وبالتالي المزيد من التنكيل ورفض أي تسويات تضمن أدنى الحقوق للفلسطينيين.
٥- المحيط العربي: بعض الدول العربية طبّعت علاقاتها مع إسرائيل دون ربط ذلك بأي حل عادل للقضية الفلسطينية، وهناك دول أخرى مطبعة في السر، وأخرى تنتظر الظروف الملائمة لتدخل تحت عباءة الاتفاقات الإبراهيمية. لذلك فإن موقف الأنظمة العربية في المجمل يمنع أي دعم حقيقي ملموس للمقاومة الفلسطينية إن لم يكن يتواطأ مع الاحتلال في محاربتها، بينما كان التبرع بالمال والذهب والسلاح قائماً زمن الثورة الجزائرية. لذلك لا بد من الأخذ بالأسباب وإزالة المعيقات السابق ذكرها لجعل هذا النموذج قابلاً للتحقيق.
يبقى النموذج الثالث وهو جنوب أفريقيا، والذي يربطه الكثيرون بكمية الضغوط الدولية التي مورست على نظام الفصل العنصري، ولا أختلف على كونها عاملاً مؤثراً، ولكن السبب الأهم من ذلك برأيي الشخصي كون المستعمرين البيض لم يتعدوا نسبة ٢٠٪ من السكان مما سارع في جعلهم يرضخون لضرورة التغيير والقبول بمشاركة الحكم مع بقية السكان عبر دولة واحدة حرة ديمقراطية، لنلحظ خلال ٣ عقود بعدها تراجع نسبة المستعمرين هناك من ١٧٪ إلى ٧٪ لأن الكثيرين منهم لم ترق لهم فكرة العيش المشترك وفقدان السيادة فغادروا إلى بريطانيا، أمريكا، كندا، أستراليا، نيوزيلاندا وهولندا. لذلك من المستبعد أن يرضخ الصهاينة الذين يشكلون نسبة ٥٠٪ من السكان على أرض فلسطين كما رضخ البيض الذين شكلوا ١٧٪ في جنوب أفريقيا، مع ملاحظة أن إسرائيل لم تخضع أصلاً لمثل ما خضعت له جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري من ضغوط دولية ومقاطعة. لذلك ما قد يوصل الصراع في فلسطين إلى هذه النتيجة هو الهجرة العكسية المتزايدة بسبب استمرار العمل المقاوم ودوامة العنف المتجددة مما قد يوصل نسبة الصهاينة على أرض فلسطين إلى مستوى يقتنعون فيه بأن استمرار نفس النهج سيؤدي إلى سحق مشروعهم نهائياً فيوافقوا على نموذج جنوب أفريقيا.
النموذج الرابع والذي لم يسبق أن حدث من قبل هو الذي ظنته قيادة منظمة التحرير إبان اتفاق أوسلو ممكناً عبر تشارك الأرض مع المستعمِر، بحيث تكون الأرض المحتلة عام ١٩٤٨ خالصة لإسرائيل بينما يتم التفاوض على الضفة الغربية وقطاع غزة، وظهر جلياً منذ عام ١٩٩٣ عدم نية إسرائيل قبول أي دولة فلسطينية حقيقية بين النهر والبحر، بل وتضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية من ربع مليون إلى ثلاثة أرباع المليون، ولم يتحقق السلام المنشود، ولن يتحقق بهذه الطريقة.
يكفي أن يعتبر أحد طرفي النزاع بأنه نزاع صفري ليحسم مسألة شكل النزاع، لأنه مهما تنازل الطرف الآخر الذي لا يراه نزاعاً صفرياً محاولاً الوصول إلى تفاهمات وحلول وسط فلن يجدي ذلك نفعاً، لأن الطرف المقابل ينتظر تصفير النزاع بالإنهاء على الخصم، ولذلك فإن أي تنازل ظاهري ضمن اتفاقات جزئية مؤقتة هو خطوة في اتجاه تصفير النزاع وحسمه، وليس قبولاً بالحلول الوسط، هكذا يجب أن تُقرأ خطوات الكيان الصهيوني منذ تأسيسه حتى الآن، منذ القبول بقرار التقسيم ثم التحفظ على قرارات ٢٤٢ و ٣٣٨ ثم اتفاق أوسلو ثم تثبيت واقع مناطق ج في الضفة الغربية بصفتها خاضعة بالكامل للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية، ومن بعدها التوسيع المتوحش للمستوطنات، ثم الحديث عن ضم أجزاء من الضفة الغربية وتهويد القدس الشرقية، إنه السعي الحثيث خطوة خطوة نحو الإنهاء على الوجود الفلسطيني غربي النهر، لذلك مهما كانت الحطوات الجزئية والمعارك تبدوا غير صفرية فإن اتجاه الحرب ككل هو النتيجة الصفرية.
لقد علَّمنا التاريخ بأن نهاية الاستعمار ليست سريعة ولا سهلة، وأن غياب الحل العادل سيُبقي الجرح مفتوحاً وأسباب انطلاق المقاومة من تحت الرماد موجودة، مع عودة اشتعال المنطقة في صراع دوري وعنيف ليس له نهاية، لقد طال الصراع في فلسطين نتيجة مشروع استيطاني إحلالي قام على نفي وجود شعبها الأصلي، وسلب أرضه، وتشتيت هويته، مع غطاء دولي لهذا الاحتلال.
لا يمكن لهذا الصراع أن يُحلّ عبر تسويات جزئية أو صفقات سياسية مجتزأة، بل فقط من خلال تحقيق العدالة التاريخية والحقوق الأساسية لجميع من ظلمهم هذا الاحتلال. إن العدالة في فلسطين لا تعني فقط وقف الحرب، بل تعني استعادة الكرامة، والاعتراف بالحق التاريخي، وتفكيك بنية الظلم الاستعماري. لا سلام دون عودة، ولا أمن دون مساواة، ولا حلّ دون إنهاء الاستعمار.
لا بد من دعم هذه الرؤية العادلة، والوقوف ضد محاولات تصفية القضية أو اختزالها في “حلول معيشية”، لأنها قضية تحرر وحق، لا مجرد نزاع حدود أو تحسين ظروف اقتصادية وفرص عمل، فهل نعي ذلك ونكون على قدر المسؤولية التاريخية؟