مقالات

لكل شيء إذا ما تم نقصان

بقلم: محمد سعد الأزهري

شبكة مراسلين
بقلم: محمد سعد الأزهري

في لحظة تاريخية مفصلية، وقف الشاعر أبو البقاء الرندي يبكي سقوط الأندلس، تلك الحضارة العريقة التي كانت تُشرق بأنوار العلم والفن والثقافة، فكتب مرثيته الخالدة: “لكل شيء إذا ما تم نقصان.. فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسان”. كانت كلماته صرخة ألم على ما فقدته الأمة من عزٍّ ومجد، ورسالة تحذير من أسباب السقوط التي لا تزال تُلاحقنا حتى اليوم. 

لقد كانت الأندلس مثالًا للحضارة الإنسانية، حيث ازدهرت العلوم والفنون، وبنيت المدن العظيمة، وعاش الناس في ظل التسامح والتنوع. لكن الفرقة والتناحر بين الحكام، وانشغالهم ببناء المجد الشخصي على حساب بناء الدولة، كانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى سقوطها.

اليوم، نرى نفس الأعراض تتكرر في أمتنا العربية والإسلامية، حيث تتفكك الأوطان بسبب الصراعات الداخلية، وتتقاتل الفصائل بدلًا من أن تتحد لمواجهة التحديات الكبرى. 

فالحكام والأمراء، بدلًا من أن يبنوا الإنسان كأساس لأي حضارة، انشغلوا بتحصين مواقعهم الشخصية، وتجاهلوا دور العلماء والمربين الذين كانوا عماد المجتمع. لقد تم تهميش العلماء، وحوصرت أصواتهم، بل وتعرضوا للحرب والإيذاء، كما يحدث اليوم في العديد من الدول العربية والإسلامية، حيث يُسجن المصلحون، ويُبعد المفكرون، ويُفقر العلماء. 

وفي الوقت نفسه، نرى أنصاف المتعلمين والمتخصصين يُقدَّمون على حساب الكفاءات الحقيقية. لقد أصبح الإعلاميون ولاعبو الكرة والمطربون هم القدوة، بينما يُهمَّش العلماء والمفكرون. هذا التمييع للقيم والأدوار أدى إلى انحدار المناهج التعليمية، التي أصبحت عديمة النفع، وتراجعت فيها القيم الأصيلة التي كانت تُغرس في الأجيال السابق.

ولا ننسى دور نظم الحكم الفاسدة، التي تعتمد على المحسوبيات والمحاصصة، بدلًا من تقديم الأصلح والأكفأ. هذه الأنظمة تُخلط الأولويات، وتدفع الأجيال للبحث عن التفاهة والمال، بدلًا من السعي نحو العلم والفضيلة. 

أما المتخصصون والمفكرون، فقد زهدوا في المشاركة في الشأن العام، إما بسبب اليأس من إمكانية التغيير، أو خوفًا من البطش والقتل. وهذا ما أدى إلى فراغ قيادي وفكري، استغلته القوى الظلامية لتعميق الانقسامات وترسيخ التخلف. 

إن درس الأندلس يبقى حاضرًا في ذاكرتنا، فهو ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو تحذير من أسباب السقوط التي لا تزال تُهدد أمتنا. الفرقة، والانشغال بالذات، وتهميش العلماء، وتمييع القيم، كلها عوامل تؤدي إلى النقصان. 

لكن الأمل يبقى قائمًا، فكما أن لكل شيء نقصان، فإن لكل شيء أيضًا إمكانية للنهوض. علينا أن نتعلم من التاريخ، وأن نعيد بناء الإنسان، ونعلي من شأن العلم والقيم، ونوحد الصفوف لمواجهة التحديات. فقط حينها نستحق أن نرث الأرض، ونبني حضارة جديدة تُخلد في التاريخ.

فهل نتعظ من دروس الماضي، أم سنظل نكرر الأخطاء ذاتها، حتى يأتي يوم نندم فيه، كما ندم الرندي على فقدان الأندلس؟

وإذا كان سقوط الأندلس يبدو للبعض حدثًا بعيدًا غارقًا في زمن الماضي، فإن المدقق في أحداث القرن الحالي يرى المشهد نفسه يتكرر بأسماء وأماكن مختلفة، لكنه يحمل نفس الأسباب والتفاصيل والنتائج المأساوية. فالتاريخ لا يكرر نفسه حرفيًا، لكنه يعيد إنتاج نفس المآسي حينما تُهمل الدروس وتُنسى العِبَر. 

خذ مثلاً سقوط الخلافة العثمانية، التي كانت امتدادًا لإرث حضاري عظيم، حكمت خلاله مساحات شاسعة من العالم، ورسخت قيم العدل والتسامح، وحافظت على توازن القوى الدولية لقرون. لكن عوامل الانهيار بدأت عندما تغيرت قناعات الخلفاء، وانشغلوا بصراعات السلطة الدموية، حتى وصل الأمر إلى قتل الأبناء والإخوة، وتحولت القصور إلى ساحات للاغتيالات والمكائد. وتفشت الفتنة بين الوزراء وقادة الانكشارية، الذين تحولوا من حماة الدولة إلى أداة تمرد وتدمير. وفي خضم هذا الانحدار الأخلاقي والسياسي، غاب دور العلماء والمربين، الذين كانوا عماد الاستقرار الروحي والفكري، فجفت منابع الخير، وتسابق الجميع نحو الجاه والمال، تاركين القيم والأخلاق في مهب الريح.

لم تكن الخلافة العثمانية تسقط فقط بسبب الضربات الخارجية، بل بسبب الخيانة الداخلية أيضًا، كما حدث عندما تمرد محمد علي باشا – والي مصر – على الدولة العثمانية، وغزا بلاد الشام والحجاز، في لحظة كان المفترض أن تُوحد فيها الجهود لمواجهة التهديدات الأوروبية المتنامية. لقد مثَّل تمرده خنجرًا في ظهر الأمة، وساهم في تسريع تفكك الدولة، لتسقط في النهاية تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، وتضيع فلسطين، وتُهزم الجيوش العربية هزيمة مذلة في حرب 1967. 

اليوم، يتكرر السيناريو نفسه بأبشع الصور: فالحروب الداخلية تلتهم الأمة من اليمن إلى السودان، ومن مالي إلى الصومال،العراق ولبنان وسوريا، حيث يطحن الشعب بعضه بعضًا في حروب عبثية، تذكرنا بصراعات العصور الوسطى. أما الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، والصراع الدامي في كشمير، فليسوا سوى فصولًا من نفس المأساة التي بدأت بسقوط الأندلس، ثم الخلافة العثمانية، وصولاً إلى التمزق الحالي. 

لكن الذروة الأكثر إيلامًا تكمن في المجزرة الإسرائيلية المستمرة في غزة، وفلسطين عاما وتلك المؤامرة العلنية على الأقصى مسرى الرسول وبداية معراجه ووصية عمر وأمانة أبو عبيدة ووقف عياض بن غُنم التميمي وجهاد واستبسال صلاح الدين الأيوبي ومنبر نور الدين محمود بن زنكي حيث تتحول القيم الإنسانية إلى غبار تحت دبابات الاحتلال، وتُباد العائلات تحت القصف، وتُهدم المستشفيات والمدارس، بينما تقف الحكومات العالمية صامتة، أو متواطئة، وكأن الضمير العالمي قد مات. إن الوحشية الإسرائيلية، المدعومة أمريكيًا وصهيونيًا، ليست سوى نتاج طبيعي لصمت الأنظمة العربية، وتشرذم الأمة، وتخليها عن دور العلماء والمفكرين، الذين ظُلموا وحُوصروا أو أُسكتوا بالقتل والسجن. 

هذا المشهد المرعب ليس حربًا على غزة وحدها، بل هو حرب على القيم الإنسانية كلها. فكيف تقف البشرية عاجزة أمام دموية تصل إلى تجويع الأطفال، وتدمير سبل الحياة، وقتل الصحفيين والأطباء، كما حدث في مستشفى الأمل؟ أين العقلاء من بني الإنسان؟ وأين صرخات الملايين التي ترفض أن يكون القرن الحادي والعشرين قرنَ الهمجية المُعلنة؟ 

الدرس الأكبر هنا أن سقوط الحضارات لا يأتي من الخارج فحسب، بل من الداخل أولاً: من الفرقة، والانغماس في الملذات، وتغييب القيم، وإسكات الحكماء. وتبدل اولويات واهتمامات الحكام والساسيين فكما قتل العثمانيون أنفسهم بخنجر الخيانة، وكما أذابت الأندلس نفسها في صراعاتها، فإن الأمة اليوم تُجهز على ما تبقى من كرامتها بصمت الأنظمة، وتواطؤ الإعلام، وانهيار التعليم، وغياب المشروع الحضاري الموحد. 

لكن النور لا ينطفئ تمامًا. فكما نهضت أوروبا من حروبها العالمية المدمرة، وبنيت اليابان من تحت الرماد، يمكن للأمة أن تعود، لكن بشروط: أن تعي أن الوحدة ليست اختيارًا، بل ضرورة وجودية، وأن تعيد إحياء دور العلماء والمربين، وتقديم الكفاءات على المحسوبيات، وتحرير التعليم من التمييع، وإيقاف نزيف الحرب على الهوية والقيم.

فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟ أم سنظل نردد مع الرندي:
أرى كلَّ مَن في الدنيا يعاديك أو يَغِظُ.. وما بِكَ مِنْهمْ خَصمٌ واحدٌ يَذُمُ،

بينما تُسرق الأرض، وتُزهق الأرواح، وتُباد الحضارة؟!

لكل شيء إذا ما تم نقصان

في ظلّ زمنٍ يُعلَن فيه انتصار القوة على الحق، والاستهلاك على القيم، والعبثية على الحكمة، يبدو المشهد العالمي اليوم امتداداً مأساوياً لدورات التاريخ التي حذّر منها الشاعر أبو البقاء الرندي في مرثيته الخالدة. فما فعله التمزق الداخلي والانغماس في الملذات بسقوط الأندلس، يفعله اليوم تحالفٌ عالمي بقيادة أمريكا، يُعيد إنتاج النقصان بأدواتٍ أكثر فتكاً وشمولية. 

• العبث الأمريكي: قيادة العالم نحو الهاوية 

تتسيد أمريكا المشهد الدولي بوصفها “قائدة أحادية”، لكنها لا تقود نحو العدالة أو السلام، بل نحو تفكيك مقومات الحضارة الإنسانية. فباسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، تُفرض ضرائب ظالمة على الدول الضعيفة، وتُشن حروب اقتصادية عبر عقوبات تُجَوِّع الشعوب، وتُهاجم دول الجوار بذرائع واهية، كما حدث في العراق وأفغانستان، وكما يُحاك اليوم ضد إيران وفنزويلا. 

ولعل أخطر مظاهر هذا العبث هو “الشرعية الدولية” المزيفة التي تفرض بها أمريكا إسرائيل والصهيونية على العالم، وكأن احتلال فلسطين جائزة تاريخية لقوة عظمى.

فبينما يُغصَب الفلسطينيون على قبول التهجير والهوان – رغم مقاومتهم الملهمة – تُحول الدبلوماسية الأمريكية القضية الفلسطينية إلى مجرد سلعة تفاوضية، تُساوم بها الأنظمة المتواطئة. 

•  البلطجة السياسية.. والعملات المشفرة: أدوات السيطرة الجديدة 

لم تعد السيطرة الأمريكية تعتمد على الجيوش وحدها، بل امتدت إلى اختراق الاقتصاد العالمي عبر “العملات المشفرة”، التي تُحوّل الدولارات إلى أرقام افتراضية تتحكم بها وول ستريت، وتجعل الشعوب رهينة لتقلبات لا تُفهم إلا بمنطق الأقوى. وفي الوقت نفسه، تُدعم أمريكا جنرالات وأنظمة فاشلة، كتلك التي تحكم دولاً عربية وإفريقية، ليس لأنها كفؤة، بل لأنها تُسهّل نهب الثروات وتُسكت الأصوات المعارضة. 

•  أما التحالفات المشبوهة مع جماعات متطرفة – فكرياً وعسكرياً – فليست سوى أدوات لخلق الفوضى، كما حدث في سوريا وليبيا، حيث تُستخدم الميليشيات لضرب استقرار الدول، ثم تُقدَّم الحلول الأمريكية كـ”منقذ”! 

• عندما يلتقي البيزينيس بالسلطة: استهلاك العالم حتى الموت 

الوجه الأكثر قتامة لهذه القيادة الأحادية هو “التزاوج بين السلطة ورجال الأعمال”، حيث تُحوَّل الشعوب إلى قطعان مستهلكة، تُغذى بثقافة الاستهلاك السريع، وتُدمَّر بيئتها بصناعات ملوثة، وتُقتل أخلاقها بإعلامٍ يروج للتفاهة. النتيجة؟ أمراض جسدية تفتك بالبشر، وأمراض نفسية تدفع الشباب إلى الانتحار، وانهيارٌ لقيم الدين والأخلاق لصالح الرذائل التي تُسوّق على أنها “حرية شخصية”. 

• غابة بلا رحمة: هذا ما سيتبقى! 

إذا استمرت هذه السياسات، فالعالم مقبل على تحوُّلٍ مرعب إلى غابةٍ منزوعة الرحمة، يحكمها قانون القوة، وينتشر فيها التطرف كبديلٍ عن العدل، وتُباد فيها الشعوب الضعيفة كما تُباد الحشرات. يومها، سيتذكر الجميع تحذير الرندي:
هي الأيام كما شاهدتها دولٌ .. مَن سَرَّهُ زَمـنٌ ساءَتهُ أزْمـانُ
لكن الذكرى لن تنفع.

•   الخلاص: هل مِن مُتعظٍ؟ 

التاريخ يُعلّم أن الحضارات تسقط حين تستهين بأسباب بقائها. فهل تُدرك أمريكا – وحلفاؤها – أن سيطرة القوة لن تدوم؟ وأن العالم الذي يُبنى على دموع الضعفاء سينهار حين يثورون؟ الأمل الوحيد هو في يقظة الشعوب، ورفضها أن تكون وقوداً لمشاريع السيطرة، وإعادة إحياء دور العلماء والمفكرين لقيادة التغيير. 

فإما أن نتعظ اليوم، أو نبكي غداً كالرندي، ونردد:
وهل نافعٌ أسفٌّ على الدنيا وقد أضحى .. بها كلُّ الحمامِ المتردِّي قَتِيلا

إقرؤا التاريخ إن فيه العبرة..
ضل قوم لا يعلمون الخبر .

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews