أخبارتقارير و تحقيقاتسلايدرمصر

كيف نحيي الخلافة الإسلامية؟ وهل هي في صالح المسلمين الآن؟ ولماذا أخذت مفهوم سيئ السمعة عند البعض؟

أعتقد أن مفهوم الخلافة الإسلامية يحتاج إلى “تسويق” بين أبناء الأمة الإسلامية.

بقلم – سيد حامد

إذا أجريت استطلاعا مبسطا بين الأصدقاء والزملاء حول مفهومهم للخلافة، لربما جاءت إجابة بعضهم عن وجود حاكم واحد يحكم كل دار الإسلام، مثلما فعل ساداتنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم، ومثلما حكم بني أمية الإمبراطورية الإسلامية من دمشق، وحكمها بني العباس من بغداد، قبل أن تدخل الدولة العباسية دور الضعف مع سيطرة العسكر التركي على أمور الخلافة مع وفاة المعتصم بالله بن هارون الرشيد عام 227 من الهجرة النبوية.

وربما أجاب بعضهم، يرددون ما يقوله بعض أبناء الأمة من العلمانيين، فالخلافة لديهم مفهوم سيء السمعة! تلطخه الدماء التي سالت في الفتنة الكبرى زمن عثمان بن عفان t، ثم الحروب بين الإمام على بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان.

وعن بني أمية؛ لا يتذكرون لهم إلا الدماء التي أسالوها في سبيل الاستئثار بالسلطة السياسية، حتى أنهم قتلوا أحفاد نبيهم محمد، واستباحوا مدينته المنورة ثلاثة أيام، وقذفوا الكعبة بالمنجنيق!

ولم يكن بني العباس بأقل رحمة من أسلافهم بني العباس، يكفي بأن لقب مؤسس الدولة العباسية كان “السفاح”، وقد خاض وقواده في دماء بني أمية، لم تأخذهم شفقة بالأحياء، ولا بجثامين الأموات، إذ لم يرعوا حرمة الموت ونبشوا قبور ملوك بني أمية!

وبعد استئصال بني أمية انقلب العباسيون على بني عمومتهم من أبناء الإمام علىّ بن أبي طالب قتلا وتشريدا، كل هذا رغبة في الاستئثار بالسلطة! 

لقد حدثت فعلا كل تلك الحروب القديمة، وسالت فيها دماء زكية، لكن من الضروري إدراك أن دائرتها كانت محدودة، تدور حول السلطة، ومقاومة من يرغب في تقويمها بالسيف.

معاوية بن أبي سفيان (حكم 41 – 60 هـ)، والذي يحمّله عديد من مؤرخي ومفكري الإسلام، مسئولية الانحراف عن مبدأ الشورى في تولية الحاكم، يبين أن الاستبداد السياسي للدول السلطانية يقف عند حدود الحفاظ على العرش، ومحصورا في دائرة النزاع على السلطة، فيقول: “لن نمنع الناس ألسنتهم ما خلوا بيننا وبين هذا الأمر“.

“هذا الأمر” يقصد به معاوية الحكم، وفيما عدا منازعة بني أمية الحكم فالمجال مفتوح أمام أمة الإسلام لكي تعمل وتبدع.

وهكذا، عرفت دار الإسلام الانفصال بين النخبة السياسية وبين أمة الإسلام، الأولي ترغب في الاستئثار بالسلطة، لكن فيما عدا هذا الاستئثار تدع الباب على مصراعيه للأمة تعمل في كافة ميادين الابداع البشري، لتنشأ حضارة وثقافية إنسانية عظيمة.

لا يمكن بأي حال المقارنة بين وظائف الدول السلطانية – وهو التعبير الذي نستخدمه على الدول الإسلامية التي حكمت شعوب الأمة الإسلامية – وبين وظائف الدول المركزية الحديثة التي تتدخل في كبيرة وصغيرة في حياة البلاد والعباد.

أليس من المستغرب أن كل نجوم الحضارة الإسلامية لمعوا في عهد “الملك العضوض” وليس في عهد “الخلافة الراشدة”؟!     

وهكذا نجد المغالطة التي تقع فيها كتابات إسلاميين وعلمانيين هي التركيز على “الجانب السياسي” لتاريخ الأمة، مع إغفال باقي مجالات الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه هي مجالات تفوقها وإبداعها.

في كتابه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر”، والذي صدر عام 1938، يهاجم طه حسين الوحدة على أساس الإسلام فيقول:

“ومن المحقق أن تكوّن الحياة الإنسانية قد قضي منذ عهد بعيد بأنّ وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدول”!

المغالطة المنطقية التي يقدمها طه حسين هي قوله إن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية. عبارة ماكرة تخالف وقائع الأمة الإسلامية. فالإسلام أقام حضارة الأمة الإسلامية ليس على أساس وحدة الدين، وإنما على أساس الاعتراف بالآخر المختلف دينيا، بل يتقدم الإسلام خطوة للأمام، ويجعل حماية ورعاية المختلف دينيا واجبا دينياً على المسلمين، يحاسبهم الله عنه يوم القيامة. الأمة الإسلامية لم تكن أمة دينية ولن تكون. هي أمة المسلمين وأبناء الأمة من غير المسلمين.

وأما قول الدكتور طه حسين بأن وحدة الدين لا تحقق “الوحدة السياسية” فهو قول يبدو فيه ذكاء الدكتور ومهارته في انتقاء الألفاظ، فالوحدة السياسية لم يعرفها المسلمين إلا لمدة قصيرة في تاريخهم، وذلك لصعوبة أن يبسط حاكم واحد سلطانه على كافة أركان الإمبراطورية الإسلامية التي اتسعت في سنوات قلائل من حدود الصين شرقا إلى جبال البرانس غربا. ومن حوض الفولجا شمالا إلى أواسط أفريقيا جنوبا. 

لم تحقق الأمة الإسلامية الوحدة السياسية إلا زمنا يسيرا، لكنها حققت الأهم منها وهي الوحدة الثقافية، وكذلك الوحدات الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية.

وهكذا، لم يؤد انقسام دار الإسلام إلى ممالك ودول سلطانية إلى إقامة أسلاك شائكة تمنع تنقل أبناء الأمة بين أرجائها، فعاش أبنائها يسيحون بحرية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. 

لم تكن هناك قيود من المواطنة والجنسية تعوق ارتحال العلماء والطلاب والتجار والرحالة.

ولأن جميع أبناء الأمة متساوون في نظر الشريعة في أي مكان بديار الإسلام كانوا يرتحلون من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه، ومن أقصاه إلى أدناه، دون أن تعوقهم أسلاك شائكة، ودون حاجة إلى حماية وامتيازات.

حب الحصيد، أن تسويقنا لمفهوم الخلافة لا يجب أن يقف عند الجانب السياسي القديم، وإنما لا بد أن يتخطاه إلى دراسة الأمة الإسلامية والأساليب التي اتبعتها لبناء حضارتها العظيمة في وقت كانت أوروبا تعيش في عصورها الوسطي المظلمة، فحضارتنا أهلية بامتياز. لا بد أن ندرس تاريخنا من أسفل لا من أعلى. ندرس اجتهاد وابداعات العلماء والفقهاء والحرفيين والصناع، لا أن نقتصر على تتبع السير الحياتية للملوك والسلاطين والأمراء، ومعاركهم وصراعاتهم.

لا بد أن نعيد تشكيل مفهوم الخلافة في أذهان أبناء الأمة من خلال إحياء مفهوم الأمة الإسلامية. وساعتها نجد استجابة لإعادة إحياء الخلافة.   

فمن ذا الذي يرفض أن يعيش في دار كبرى يتنقل بحرية بين أرجائها الفسيحة، دون أن تقيده قيود المواطنة والجنسية، والحصول على تأشيرات وموافقات أمنية؟!

أظن أن مفكري الغرب قد اطلعوا على فكرة الخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية، التي تجمع شعوب وأعراق شتى لا تفرقهم قيود الجنسية والقومية والديانة، ثم توصلوا إلى نموذج الاتحاد الأوروبي والوحدة الأمريكية.

في النموذج الأمريكي، نري مفكريه يستخدمون مصطلح أمة Nation في كتاباتهم عن الشعب الأمريكي، فهي الأمة الأمريكية وليس State، أي الدولة. صحيح أنهم يستخدمون مصطلح State، لكنهم يقصدون بها ولاية لا دولة، فهي United States، الولايات المتحدة. كل ولاية لها قانونها الخاصة به، وأجهزة شرطتها، والإدارة المحلية، بيد أنها كلها تجتمع في انتخابات عامة تختار الرئيس، ويحميها جيش دفاع واحد، وتتبع سياسة خارجية واحدة.

وفي النموذج الأوروبي، ورغم عوامل التفرق إلا أن أوروبا تجمعت في عصبة أمم كبيرة. تجاوزت القارة العجوز اختلافات اللغات، وتاريخ طويل من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، والحروب السياسية والقومية بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر، لتستعير نموذج الخلافة الإسلامية، بإزالة الحدود الجغرافية، وإقامة سوق أوروبية كبرى.

معني هذا أنه لا يوجد تصور واحد لشكل الخلافة التي تجمع أبناء الأمة، مسلمين ومسيحيين ويهود.

ربما يكون صعباً أن تعود الخلافة في شكل دولة إسلامية واحدة، تظلل جميع أبناء الأمة في ديار الإسلام، وترعي مصالح أبنائها في خارج بلدانها.

تصور صعب، لكنه ليس مستحيلاً، فقد عرفته الامة في عهد الخلافة الراشدة، وحتى العهد العباسي الأول.

وربما تعود الخلافة في شكل دول إسلامية، تتوحد في مجال الاقتصاد والتشريع والسياسة الخارجية والدفاع العسكري، على غرار الاتحاد الفيدرالي الذي أخذت به الولايات الأمريكية، فإذا بها في غضون عشرات السنين تتحول إلى قوة كبرى تتصدر العالم. 

ربما تعود الخلافة في شكل اتحاد كونفدرالي بين الأمم والشعوب الإسلامية، على الشكل الذي توحدت به القارة العجوز أوروبا فيما يعرف بـ “الاتحاد الأوروبي”.

على أية حال، يبقي الجامع الرئيس لكل الأشكال المقترحة لوحدة أمة الإسلام أن تكون المرجعية الإسلامية هي المهيمنة، لشئون الحياة والمعاملات، وللثقافة الشاملة الجامعة.

إننا نؤمن بأن الأمة الإسلامية هي الجواب المناسب للبشرية لكي تخرج من أزمتها النفسية والحضارية والاقتصادية والاجتماعية. هي الجواب بما تملكه من قوة روحية في الإسلام، واعتراف بالتعدد والتنوع والقبول بالآخر.

يقولون: كيف نؤمن بعودة الأمة والخلافة، وهي الآن ممزقة، متناثرة؟!

إن الحلم هو بداية العمل، وحقائق اليوم كانت في الأمس أحلاما وأساطير!

روما كانت قرية صغيرة، فإذا بها إمبراطورية كبرى، تسود عالم البحر المتوسط!

وبريطانيا كانت جزيرة منعزلة على شاطئ أوروبا، فإذا بها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس!

والولايات المتحدة كانت مستعمرات بريطانية، يفر إليها المضطهدون والمغامرون والأفاكون، فإذا بها تتصدر القوي العالمية!

وأستراليا كانت سجن ومنفي للمساجين البريطانيين!

وأمة الإسلام بدأت برجل أوحي إليه الله بالرسالة في “غار حراء”، وجاء يوم لم يكن مؤمنا بنبوته سوي زوجه خديجة، وابن عمه علىّ بن أبي طالب، وصديقه الصديق أبو بكر.

وفي غزوة الخندق، يقابل المسلمون في أثناء حفر الخندق صخرة لا تقوي عليها معاولهم، فيخبرون النبي ﷺ، فيضربها بمعوله ثلاث ضربات، ويبشر أصحابه: “أما الأولي فإن الله فتح على بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح على بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح على بها المشرق”.

وبعد سنوات قلائل، تحقق ما سخر منه منافقي المدينة!

إن التمسك بالحلم المستحيل قد يكون جنونا، لكنه هو “الجنون الحميد”.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews