“ترامب” يعيد صياغة الرأسمالية الأمريكية

تسييس القوة الاقتصادية.. واستحواذ على الشركات.. وربط الأرباح بالخضوع للدولة
ترجمة وتحرير: عصام حريرة
مقدمة:
يُشير تدخل واشنطن المتزايد في الشركات الأمريكية إلى تحول نحو رأسمالية أكثر تأثرًا بالدولة؛ رأسمالية تمزج بين قوة السوق والنفوذ السياسي. وفي ظل هذا التدخل، تشهد العلاقة بين حكومة الولايات المتحدة والشركات الأمريكية تحولًا عميقًا؛ ففي ظل الإدارة الثانية للرئيس “ترامب”، تتخلى واشنطن عن موقفها التقليدي القائم على السوق الحرة وتتجه إلى نموذج أكثر تدخلًا يُصبح فيه الامتثال لأهداف الأمن القومي أكثر ربحًا. ويتضمن هذا النهج المتطور بعض عناصر الرأسمالية الموجهة من الدولة، كما هو مُتبع في دول مثل الصين وروسيا. ويُعد هذا التحول ملحوظًا لأنه لا ينبع من أزمة اقتصادية أو ضرورة حرب، بل من أهداف جني الإيرادات وإعادة تأكيد السيطرة السياسية على القطاعات الاستراتيجية.
نهجٌ قائم على المعاملات:
على مدار الأشهر القليلة الماضية، اتخذت الإدارة الأمريكية خطواتٍ استثنائيةً لدمج نفسها في القطاع الخاص؛ فقد استحوذت الحكومة على “حصةٍ ذهبية” في شركة “يو إس ستيل” كشرطٍ للموافقة على استحواذ شركة “نيبون ستيل” اليابانية عليها. كما أبرم “ترامب” صفقةً مع شركتي “إنفيديا” و”أدفانسد مايكرو ديفايسِز”؛ حيث أصدر تراخيص تصدير مقابل 15% من عائدات الشركتين التي ستجنيها من السوق الصينية من مبيعات رقائق “H20”. وفي تموز/ يوليو الماضي، اشترى “البنتاغون” حصةً قدرها 15% في شركة “إم بي ماتيريالز”، وهي شركةٌ كبرى لتعدين المعادن النادرة، ليصبح بذلك أكبر مساهميها. ومؤخرًا، في آب/ أغسطس الماضي، استحوذت الإدارة على حصةٍ قدرها 10% في شركة “إنتل”، وهي شركةٌ لتصنيع الرقائق تُقدر قيمتها بـ8.9 مليار دولار، مُمثلةً بذلك أحد أهم تدخلات الحكومة الأمريكية في شركةٍ خاصة منذ عمليات إنقاذ صناعة السيارات، التي نُفذت عقب الأزمة المالية الكبرى عام 2008.
وهكذا، تعكس سياسة “الدفع مقابل اللعب” (أو “ادفع لتلعب”) نهج إدارة “ترامب” في التعامل مع الشركات الأمريكية، وهو نهج يتحدى أسس النظام الأمريكي التقليدي الموجه نحو السوق؛ حيث يطمس الخط الفاصل بين الرقابة التنظيمية والمفاوضات التجارية. وغالبًا ما تستند الصفقات إلى أسس قانونية واهية، مع قليل من الرقابة أو الشفافية، لكن شركات قليلة لديها استعداد لتحدي الحكومة. وبالنسبة للكثيرين، تُمثل هذه الترتيبات ضمانًا سياسيًا؛ فهي وسيلة “لشراء اليقين” في بيئة تنظيمية متقلبة، وبالنسبة لآخرين فهي خطوة دفاعية لتجنب الضغوط العدوانية أو الاستبعاد من العقود الحكومية، حيث تدفع الشركات لمنع نتائج أسوأ. وتُعد صفقات المقايضة هذه نماذج محتملة لتطبيق أوسع في الصناعات الاستراتيجية؛ حيث تجري مناقشات حول ترتيبات مماثلة لمقاولي الدفاع.

أوجه رأسمالية الدولة:
يبدو أن هناك نموذجين لتدخل الدولة آخذان في الظهور؛ الأول، والذي غالبًا ما يُوصف بـ”الرأسمالية الوطنية”، يعامل الشركات أو القطاعات كأبطال وطنيين وأدوات لسلطة الدولة. وهنا تتصرف الدولة الأمريكية بشكل مشابه لنظيرتها الصينية؛ حيث تدمج الشركات في الاستراتيجيات الجيوسياسية. فعلى سبيل المثال، في آب/ أغسطس، وصف وزير التجارة، هوارد لوتنيك، شركة “لوكهيد مارتن” بأنها “ذراع للحكومة الأمريكية”، إذ تعتمد الشركة اعتمادًا كبيرًا على العقود الفيدرالية. وفي صفقته مع شركة “إم بي ماتيريالز” سيحصل “البنتاغون” على عناصر أرضية نادرة بأسعار مضمونة لإنشاء سلسلة توريد شاملة للمعادن الأساسية في الولايات المتحدة، محاكيًا بذلك إلى حد كبير التكتيكات المحلية الصينية.
بالمثل، أعلنت الحكومة الأمريكية في وقت سابق من هذا العام عن خطط للاستثمار بسخاء في قطاع بناء السفن، لمواجهة هيمنة الصين على هذه الصناعة. وخلافًا لاعتماد الصين على الإعانات الضخمة، تُفضل إدارة “ترامب” استخدام النفوذ التنظيمي على الشركات الاستراتيجية وتمكين المؤسسات المدعومة من الحكومة، مثل “مؤسسة تمويل التنمية الدولية”. فعلى سبيل المثال، في الصفقة مع “إم بي ماتيريالز” حصلت وزارة الدفاع على تمويل خاص بقيمة مليار دولار من “جي بي مورغان تشيز” و”غولدمان ساكس” لبناء منشأة لتصنيع المغناطيس في تكساس.
أما النموذج الثاني، وهو السائد حاليًا، فيعتبر أكثر تعاملًا وانتهازية؛ إذ يستهدف شركات مثل “إنفيديا” و”آبل” لضخامتها أو ربحيتها التي لا تسمح بتجاهلها، ويُشبه النظام الروسي القائم على رأسمالية الدولة؛ حيث يُتوقع من الشركات تقاسم الأرباح مع الدولة مقابل الوصول إلى السوق أو الحماية. ولجعل هذه الصفقات مستحيلة الرفض، تلجأ الحكومة الأمريكية إلى الحرب القانونية، فترفع دعاوى قضائية تحت ذرائع مختلفة. فمثلًا حصلت “آبل” على إعفاء من الرسوم الجمركية مقابل تعهد باستثمار 600 مليار دولار، حتى في الوقت الذي تواجه فيه دعوى قضائية من وزارة العدل لمكافحة الاحتكار بسبب هيمنتها على سوق الهواتف الذكية. وكبديل لذلك، يمكن للحكومة استخدام أدوات تنظيمية أخرى للضغط على الشركات، من خلال منع وصولها إلى العقود العامة (تشمل الخيارات المفضلة لدى الكرملين التحقيقات في الاختلاس وحجب شهادات السلامة من الحرائق). وكما يُظهر المثال الروسي، لا وجود لضريبة لمرة واحدة؛ إذ ستظل الشركات مُلزمة بدفع مطالب جديدة، غالبًا وسط عدد متزايد من الدعاوى القضائية.

صفقات “الدفع مقابل اللعب” العالمية:
إن أكثر ما يثير القلق هو امتداد هذا النموذج إلى الساحة الدولية؛ حيث تختبر إدارة “ترامب” بالفعل صفقات “الدفع مقابل اللعب” العالمية كجزء من جهودها لإعادة توجيه التجارة العالمية لصالح الولايات المتحدة، وهذا التوجه يتسبب في خطرين واضحين:
- أولًا: أن تصبح الشركات متعددة الجنسيات، الأمريكية والأجنبية على حد سواء، أدوات جيوسياسية عالقة في مرمى النيران بين بكين وبروكسل وواشنطن
- ثانيًا: أن تمارس الشركات الأمريكية ضغوطًا كبيرة على الحكومات الأجنبية للتوافق مع الأجندة السياسية للإدارة.
ففي هذا الإطار، تتعرض الشركات الأوروبية ذات الصلة بالولايات المتحدة، من خلال المعاملات المقومة بالدولار أو الاعتماد على السوق والتكنولوجيا الأمريكية، لضغوط متزايدة للتوافق مع ضوابط التصدير الأمريكية. وقد صعّد مكتب الصناعة والأمن، الذي يُدير ضوابط التصدير الأمريكية، الضغط على الشركات في الدول الحليفة. ففي آب/ أغسطس الماضي، أزالت الإدارة الأمريكية شركتي “سامسونج” و”إس كي هاينِكس” الكوريتين الجنوبيتين من قائمة “المستخدم النهائي المعتمد”، ما حرمهما من القدرة على شحن الرقائق وأدوات تصنيع الرقائق أمريكية الصنع من كوريا الجنوبية إلى المصانع الصينية دون ترخيص، وفي أيلول/ سبتمبر الجاري، ألغت الإدارة ترخيص شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية متعددة الجنسيات “TSMC”. وفي حين أنه ليس جديدًا على الولايات المتحدة ممارسة ضغوط خارج الحدود الإقليمية على الشركات الأجنبية، لكن من غير الشائع أن تفعل واشنطن ذلك على الشركات الرئيسية في الدول الحليفة. وكما حدث في صفقة “إنفيديا”، قد تواجه شركات التكنولوجيا الأوروبية مطالب بالتنازل عن الإيرادات أو الاستثمار في سلاسل التوريد الأمريكية لتجنب التعريفات الجمركية الثانوية.
إن هناك خطرًا يتمثل في أن يتمكن المستثمرون الصينيون من الوصول إلى القطاعات الأمريكية الحساسة، إذا أبرموا الصفقة المناسبة وعرضوا سعرًا مرتفعًا بما يكفي، رغم التدقيق من قبل لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة. ورغم استمرار المخاوف الأمنية القومية، يُستغل تطبيق “تيك توك”، المملوك لشركة “بايت دانس” الصينية، كورقة مساومة في نزاع التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث أبدت الإدارة اهتمامها بالاستحواذ على حصة عبر اتفاقية “حصة ذهبية”. وقد تُدفع الشركات الأمريكية أيضًا إلى العودة إلى السوق الروسية إذا كان ذلك يخدم الأهداف السياسية لـ”ترامب”، ومع إعراب موسكو عن رغبتها في عودة “بوينغ”، يُحتمل أن تضغط الإدارة على الشركة لاستئناف عملياتها في روسيا كجزء من تسوية سلمية أوسع.
بالمقابل، يسمح هذا النهج المعاملاتي للشركات الأمريكية بالسعي وراء مصالحها التجارية الخاصة، من خلال دعم الأهداف السياسية لإدارة “ترامب”، وبهذا تتشابك الحدود بين القطاعين العام والخاص بشكل متزايد. فمن خلال استغلالها لأجندة “ترامب” المناهضة للمناخ، حثّت بعض الشركات الأمريكية واشنطن على استخدام المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي لإضعاف توجيه بروكسل للعناية الواجبة باستدامة الشركات لعام 2024، والذي يفرض التزامات على الشركات غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لضمان عدم إضرار سلاسل التوريد الخاصة بها بالبيئة أو انتهاك حقوق الإنسان. كما يسعى آخرون للتأثير على الإدارة بشأن قانون الخدمات الرقمية لعام 2022 للاتحاد الأوروبي، والذي أثر سلبًا بالفعل على شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى. وإدراكًا منهم لتطلعات “ترامب” لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، سعى المسؤولون التنفيذيون في شركة “إكسون موبيل” بالفعل إلى الحصول على دعم حكومي لعودة محتملة إلى السوق الروسية، وورد أنهم تلقوا “آذانًا صاغية”.
والخلاصة، إن ما نشهده ليس مجرد تحول في السياسة، بل تحول منهجي في كيفية نظر الحكومة الأمريكية إلى علاقتها بالصناعة. وقد يفسح النموذج الأمريكي الراسخ، الذي يقود فيه السوق وتتبعه الدولة، المجال لنموذج جديد يتم فيه تسييس القوة الاقتصادية، ويشترط استقلال الشركات بالتوافق الوطني. وبينما يظل من غير المرجح أن تتبنى الولايات المتحدة رأسمالية الدولة بالكامل، لكن هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا: وهو أنه تتم إعادة كتابة قواعد التعامل بين الشركات والحكومة، كما بدأت الآثار العالمية في الظهور.
المصدر: المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)