حسام أبو صفية.. الطبيب الذي جعل من مهنته مرادفًا للإنسانية

شبكة مراسلين
مقال بقلم: سجى عبد المجيد شبانة
في غزة، تلك البقعة الصغيرة المحاصرة منذ أكثر من 18 عامًا، والتي تحولت إلى مختبر مفتوح للمآسي الإنسانية، يبرز اسم الدكتور حسام أبو صفية كأحد أعظم الرموز الإنسانية المعاصرة. فهو لم يكن مجرد طبيب أو مدير مستشفى؛ بل كان ضميرًا حيًا اختار البقاء في المكان الذي هرب منه الجميع، متحديًا الخوف والجوع ونقص الدواء، ليكون آخر سند طبي للمدنيين في شمال القطاع.
حين سُئل عن سبب بقائه، أجاب بجملة اختزلت كل شيء:
“لن نتركهم. سنبقى حتى آخر مريض في شمال غزة مهما كلّف الأمر.”
هذه الكلمات لم تكن مجرد تصريح طبي، بل تحولت إلى صيحة احتجاج أخلاقية على صمت العالم. وقد لخصها في جملة أشد وقعًا: “نحن نموت ولا يشعر بنا أحد.”
هذه العبارة، التي انتشرت على نطاق واسع في وسائل الإعلام الدولية، عرّت عجز المنظمات الإنسانية أمام ما يحدث في غزة، وطرحت سؤالًا وجوديًا على المجتمع الدولي: كيف يمكن أن يتحول الطبيب إلى هدف مشروع في زمن الحروب؟
ثمن الصمود: فقدٌ وجرحٌ واعتقال
لم يكن الثمن الذي دفعه الدكتور أبو صفية رمزيًا؛ فقد تجسد في مآسٍ شخصية قاسية. ففي 26 أكتوبر 2024، فقد ابنه البكر، إبراهيم (15 عامًا)، في قصف استهدف محيط مستشفى كمال عدوان. بعد ذلك بأسابيع، أصيب أبو صفية نفسه بست شظايا في فخذه إثر استهداف بطائرة مسيّرة إسرائيلية.
ورغم ذلك، عاد إلى المستشفى بعد تعافيه جزئيًا، في موقف يجسد معنى التفاني الذي يتجاوز كل المعايير البشرية؛ كان يضمد جراحه بيد، ويضمد جراح مرضاه باليد الأخرى.
ثم جاءت أشد اللحظات قسوة في 27 ديسمبر 2024، حين اقتحمت القوات الإسرائيلية المستشفى واعتقلته أمام طاقمه الطبي ومرضاه. نُقل إلى سجون سدي تيمان وعوفر، حيث وثّقت منظمات مثل Front Line Defenders وأمنستي تعرضه لتعذيب ممنهج، شمل:
• تعرية قسرية وإجباره على الجلوس على حصى حاد.
• صدمات كهربائية وضربًا مبرحًا.
• حرمانًا متعمدًا من النوم والعلاج، ما أدى إلى فقدانه أكثر من 40 كيلوجرامًا من وزنه.
وعند الإفراج عنه، قال جملة تلخص فلسفته المهنية: “لم يكن موتي الشخصي هو ما يخيفني، كنت أفكر في مرضاي الذين تركتهم بلا رعاية.”
الأرقام خلف المأساة انهيار شامل للقطاع الصحي في غزة
قصة أبو صفية ليست معزولة، بل هي مرآة لواقع القطاع الصحي الذي يعيش أسوأ مراحله منذ عقود. وتشير البيانات إلى:
فيما يلي الجدول الذي يوضح البيانات المتعلقة بالهجمات على المرافق الصحية منذ أكتوبر 2023:
المؤشر | القيمة |
---|---|
عدد الهجمات على المرافق الصحية منذ أكتوبر 2023 | 697 هجومًا |
متوسط الهجمات الشهرية | 73 هجومًا شهريًا |
نسبة المستشفيات الخارجة عن الخدمة | 94% |
عدد المستشفيات العاملة | 17 مستشفى فقط |
عدد العاملين الصحيين القتلى | أكثر من 1,400 |
عدد الإصابات المدنية دون علاج كاف | أكثر من 40 ألف إصابة |
وفق تقرير لـمنظمة الصحة العالمية وأنقذوا الأطفال، فإن غزة سجّلت أعلى معدل هجمات على المرافق الصحية عالميًا في العقد الأخير. هذا لا يشكل فقط أزمة إنسانية، بل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف التي تنص صراحة على حماية الطواقم الطبية في النزاعات المسلحة.
رمز إنساني يتجاوز حدود غزة
تحوّلت قضية الدكتور أبو صفية إلى رمز عالمي. فقد أطلق آلاف الأطباء حول العالم حملات تضامن تحت وسم
#FreeDrHussamAbuSafiyeh، وطالبت نقابات طبية دولية ومنظمات حقوقية بالإفراج عنه فورًا.
ووصفته صحيفة بريطانية بارزة بـ”البطل في اللباس الأبيض”، في إشارة إلى صموده الذي أحرج المجتمع الدولي. حتى زوجته الكازاخستانية التي اختارت البقاء معه في غزة رغم الحصار، أصبحت رمزًا لجسر إنساني عابر للحدود، يذكر العالم بأن الإنسانية لا تعترف بالجنسيات ولا الأديان.
دروس ورسائل للعالم
قصة أبو صفية ليست مجرد حدث إنساني؛ إنها اختبار أخلاقي عالمي يفرض تساؤلات دبلوماسية خطيرة:
1. لمنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية: لماذا لا تتحول حماية الأطباء في النزاعات إلى التزام قانوني يفرض عقوبات على الدول التي تنتهكه؟
2. للدول الكبرى: أين دور الدبلوماسية الإنسانية؟ ولماذا يتم الاكتفاء ببيانات الشجب دون فرض آليات ضغط فاعلة؟
3. لوسائل الإعلام الدولية: قصة إنسان واحد، إذا رويت بصدق، قد تغيّر الرأي العام العالمي أكثر من آلاف المؤتمرات السياسية.
4. للمجتمع المدني العالمي: التضامن مع الأطباء في غزة اليوم هو دفاع عن قيم إنسانية تهددها سياسات الحرب في كل مكان.
إنسانية تنتصر على الحرب
في زمن تتساقط فيه القيم الأخلاقية مع كل صاروخ يسقط على غزة، يثبت حسام أبو صفية أن البطولة الحقيقية ليست في النجاة، بل في القدرة على البقاء إنسانًا وسط الجحيم.
هذا الطبيب، الذي خسر ابنه واعتقل وعُذّب، لكنه ظلّ وفيًا لقسمه الطبي، يجسد درسًا أخلاقيًا عالميًا: الإنسانية ليست رفاهية، بل خيار شجاع يدفع ثمنه غاليًا.
إن الدفاع عن أمثال أبو صفية اليوم هو دفاع عن مستقبل الطب في كل مناطق النزاع، وعن حق البشرية في الحفاظ على ضميرها حيًا.
حسام أبو صفية لم يكن مجرد طبيب في غزة؛ لقد كان شاهدًا حيًا على أن الإنسانية يمكن أن تزهر حتى في أكثر بقاع الأرض قسوةً.