
شبكة مراسلين
مقال بقلم: محمد سعد الأزهري
بينما تقاس قيمة النخبة والمثقفين والإعلاميين والسياسيين ورجال الدين والدولة اليوم – في بلادنا العزيزة المنكوبة صاحبة التاريخ التليد والحضارة الضاربة في أعماق التاريخ وتلك الآثار والمشاهد دالة عليها مشيرة إليها فخورة بها ترتدي حُلة الخيلاء والشرف عندما تستعرض أيامها وتاريخها –
أقول وأكرر تقاس قيمة القوم بحديثهم وأشعارهم وخطبهم وكلماتهم عن الوطن ومنزلته وتقديره وحبه وحكايته وحمايته والدفاع عنه والموت في سبيله، وعن الوطنية وصورها وقيمها وملامحها وشكلها وأبعادها وشرف الحديث عنها والانتساب إليها.
في خِضَمِّ التحولات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة العربية، تطفو على السطح إشكالية مُلحّة: كيف تحولت الوطنية من قيمتها النبيلة كفداءٍ للوطن إلى شعارٍ مُجوفٍ يُستخدم لتبرير التقسيم والتنازل؟ سؤالٌ يفرض نفسه بقوة عند استقراء تاريخ المنطقة خلال القرن الماضي، حيث تتكشف مأساةٌ إنسانيةٌ وسياسيةٌ تختزل مأساة الأمة العربية والإسلامية.
الوطنية في الميزان: بين الخطاب والممارسة
تقاس قيمة النخب السياسية والدينية والثقافية بمدى إخلاصها للوطن، لا ببلاغة خطاباتها أو براعة شِعرها. فحب الوطن ليس كلماتٍ تُلقى على المنابر، بل تضحيات تُقدَّم على الأرض. لكن الواقع العربي، منذ نهاية الدولة العثمانية، يُظهر تناقضًا صارخًا بين الخطاب الرنان والممارسة الفعلية.
فبينما تتغنى النخب بالوطنية، تتنازل عن الأرض وتُفكك الوحدة وتُشرعن الاحتلال.
من «الدولة الواحدة» إلى «دويلات الدمى»
قبل قرنٍ من الزمان، كان العالم العربي والإسلامي يمتد من البلقان شرقًا إلى المغرب العربي غربًا، دون حدودٍ مصطنعةٍ أو جوازات سفر. كانت فلسطين والشام والعراق والحجاز أقاليمَ متصلةً تحت مظلة الخلافة العثمانية، التي رغم انتقاداتها، حافظت على كيانٍ جغرافيٍ وسياسيٍ موحد. لكن معاهدة «سايكس بيكو» 1916 و«لوزان» 1923 رسمت خريطةً جديدةً للمنطقة، قسَّمتها إلى دويلاتٍ هشةٍ تحت الهيمنة البريطانية والفرنسية، وفتحت الباب لزراعة كيانٍ غريبٍ في فلسطين.
اللافت أن بعض القيادات العثمانية والعربية آنذاك شاركت في هذا التمزيق، بل ساهمت في إضفاء الشرعية على
ن«الوطن القومي اليهودي». وفي مفارقةٍ تاريخية، كان مصطفى كمال أتاتورك، رمز «الوطنية التركية»، أول من اعترف بإسرائيل عام 1949، مُكرسًا سياسة القطيعة مع التراث الإسلامي عبر إلغاء الخلافة واستبدال الحروف العربية باللاتينية وإلغاء الأذان وإلغاء الحجاب والإمعان فب تمزيق الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية .
الوطنية المُغيّبة: من فلسطين إلى اليمن
بعد نكبة 1948، تحولت الوطنية العربية إلى شعارٍ يُرفع لتمرير الهزائم. العربية التي فشلت في الدفاع عن فلسطين، تحولت لاحقًا إلى أدوات قمعٍ ضد شعوبها. حين انطلق عز الدين القسام وأمين الحسيني للمطالبة بدعم عربيٍ لتحرير فلسطين، لم يُجِبْ النداء إلا أفرادٌ قلة، بينها جماعاتٌ إسلاميةٌ وحركاتٌ وطنيةٌ كـ«مصر الفتاة»، لكن مصيرها كان السجون أو الإعدامات.
اليوم، تتكرر المأساة بأشكالٍ أكثر قتامة: فكّ الوحدة المصرية السورية، تقسيم السودان، تفتيت العراق وسوريا واليمن، وحصار غزة الذي تحوّل إلى عقابٍ جماعيٍ لشعبٍ يقاوم الاحتلال. وفي مشهدٍ يُجسّد الانهيار الأخلاقي، يُطالب بعض «الوطنيين» – بزعم الحكمة – بتهجير أهل غزة، بينما يُشيدون بمقاومة أوكرانيا!
الخيانة باسم الوطنية: عندما يصبح الراعي ذئبًا
تحت شعار «حماية الوطن»، تُبرر الأنظمة تفريطها بالأرض وتنسيقها الأمني مع الاحتلال. فما فعله أتاتورك سابقًا بتغيير الهوية التركية، يفعله اليوم سياسيون عربٌ بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وترك غزة تواجه مصيرها وحدها. بل وصل الأمر إلى حدّ إقحام الدين لتبرير التنازل، كما في فتاوى التخلي عن فلسطين، رغم كونها أرض وقفٍ إسلامي.
السؤال الذي يُطارد الضمير العربي: أي وطن هذا الذي يُدافع عن نفسه بقتل أبنائه؟ وأي وطنيةٍ تلك التي تسمح بتحويل الشعوب إلى رهائنٍ لمصالح النخب؟ وكيف قبلت الأمة أن تُختزل «الوطنية» في الخنوع، بينما تُوصف المقاومة «إرهابًا»؟
الخاتمة: هل من بازل للوطنية الحقيقية؟ الوطنية الحقيقية لا تُقاس بخطاباتٍ تلفزيونية، بل بصمود الفلاح في أرضه، والطالب في جامعته، والمقاوم في خندقه. وهي ليست شعارًا يُرفع وقت الأزمات، بل التزامٌ دائمٌ بالعدل والحرية والكرامة. فإذا كان التاريخ قد شهد خيانة النخب، فإن الأمل يعود دائمًا بتضحيات الشعوب. وكما قال الشاعر:
بلادُ العربِ أوطاني.. مِنَ الشَّامِ لبُغدانِ
ومِنْ نَجْدٍ إِلى مِصْرَ.. فَهل تُتَّهكُ الحِرمانُ؟