تاجر إبل تحول إلى أكبر تاجر ذهب ومورد للمرتزقة.. من أين يستمد “حميدتي” قوته؟ وماهي علاقته بـ “فاغنر”؟ ولماذا غدر بـ البشير؟

محمد الليثي – شبكة مراسلين
تساؤلات كثيرة يطرحها نشطاء ومتابعون للوضع في السودان، عن السيرة الذاتية لـ محمد حمدان دقلو المعروف بـ “حميدتي” الذي تحول إلى جزء من الصراع على السلطة في السودان، بعد الإخفاق في الانتقال إلى الحكم المدني، ولعل أهم الأسئلة المطروحة، كيف تحول “حميدتي” تاجر الإبل الذي لا يجيد القراءة والكتابة، إلى ثاني أكبر رأس في الدولة، وإن لم يكن أولها حال نجح في انقلابه على الجيش الذي يقوده عبد الفتاح البرهان.
من هو حميدتي؟
بدأت حكاية تاجر الإبل محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، في عام 2003، عندما حشدت حكومة البشير قوات من رعاة الجمال العرب لمحاربة المتمردين الأفارقة في دارفور.. هذه القوات كانت نواة قوات عرفت باسم “الجنجويد” وترمز للرجال الذين يقاتلون من فوق الخيل أو الجمال، وهي مؤلفة من رعاة جمال من عشيرتي المحاميد والماهرية من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في دولة تشاد التي يعود لها أصل ومنشأ حميدتي.
خلال حرب ومذابح دارفور التي قامت بسبب اعتراض أهالي دارفور على سوء أحوالهم وتهميشهم بين عامي 2003-2005، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة والأسوأ سمعة هو موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد.
وعرف أفراد “الجنجويد” بدمويتهم، وقد كانوا يد عمر البشير الباطشة في ردع أهالي ومتمردي دارفور، والتي بسببها اتهمت المحكمة الجنائية الدولية، البشير، بارتكاب جرائم حرب.
كان عمر البشير يعتبر قوات الجنجويد سيفه الذي يحميه، حتى أنه أطلق عليهم لقب ” حمايتي” وأضفى البشير الطابع الرسمي عليهم في قوة شبه عسكرية أطلق عليها اسم وحدات الاستخبارات الحدودية.
نشأة حميدتي
لمع اسم “حميدتي” في هذه المليشيا التي أمر البشير بتأسيسها، وكان حميدتي نشط في جنوب دارفور، واشتهر بالقسوة في التعامل مع كل المعارك التي كان يدخلها، كما كان يتمتع بروح حيوية كمقاتل شاب، رغم ملامحه الطفولية وأسلوبه البسيط والشعبوي في كلامه،وهو ما كان سببا لتدليله بإطلاق اسم الشهرة ” حميدتي”.
تحول حميدتي الذي لم يستكمل مراحل تعلميه، بعد أن هرب من الدراسة إلى تاجر صغير، وسط عشيرة الماهرية من قبائل الرزيقات التي كان ينتمي إليها، من أصول تشادية، حيث تنتشر هذه القبيلة في تشاد ومصر والسودان .
نقطة تحول حميدتي
كان عام 2007 هو كلمة السر في تغيير حياة حميدتي المهنية، عندما انتشر الاستياء في صفوف قواته بسبب فشل الحكومة في دفع رواتبهم، وشعروا أنهم تعرضوا للاستغلال، إذ أرسلوا إلى خط المواجهة، وألقي عليهم اللوم في ارتكاب أعمال وحشية، ثم تُركوا وتعرضوا للتخلي عنهم.
ليبدأ تمرد حميدتي ومقاتلوه، وتوعد بمحاربة الخرطوم “حتى يوم القيامة”، وحاول إبرام صفقة مع متمردي دارفور، ردا على .
ويبدأ حميدتي من تاجر الإبل، إلى تاجر مرتزقة، من الجنجويد، من خلال تجنيده لمتطوعين من قبيلة الفور ذات الأصول الأفريقية في دارفور في صفوف جيشه، للقتال إلى جانب مقاتليه العرب، أعدائهم السابقين.
واستقطب حميدتي جنوده من عشيرته الماهرية، كما لعب على تجنيد مرتزقة، من جميع القبائل والجماعات العرقية، حتى أنه نجح في ضم فصيل منشق من جيش تحرير السودان المتمرد، بقيادة محمدين إسماعيل، الذي ينتمي لقبيلة الزغاوة، وهي جماعة أخرى في دارفور كانت مرتبطة بالمتمردين.
مرحلة القوة
وبعد عامين عاد حميدتي إلى الخرطوم عندما عُرضت عليه صفقة دسمة: دفع رواتب قواته بأثر رجعي، ومنح ضباطه رتبا عسكرية، في محاولة لاسترضائه، وأصبح حميدتي ضابطا برتبة “عميد“، رغم كونه لا يجيد القراءة والكتابة، الأمر الذي أثار غضب ضباط الجيش الذين درسوا كلية الأركان وتدرجوا في سلم الرتب بشكل نظامي، بالإضافة إلى دفع مبلغ نقدي كبير له.
ولكي يتم شرعنة قوات حميدتي من المرتزقة والجنجويد، وُضعت قواته تحت قيادة جهاز المخابرات والأمن الوطني، في ذلك الوقت لتنظيم حرب بالوكالة مع تشاد.
وشق بعض مقاتلي حميدتي، الذين خدموا تحت راية المعارضة التشادية، طريقهم حتى العاصمة التشادية نجامينا، في عام 2008.
إلا أن حميدتي في هذا الوقت اختلف مع سيده السابق موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد وقائد الجنجويد، وكان عداؤهم سببا في اعتماد البشير عليه بعد ذلك، نتيجة السمعة السيئة لموسى هلال ورغبة البشير في التخلص منه، ووجد ضباط البشير وقادته العسكريين أن حميدتي أكثر جدارة بثقتهم.
بداية نشأة قوات الدعم السريع وتسليحها
وفي عام 2013، تم تشكيل قوة شبه عسكرية جديدة تحت قيادة حميدتي وسميت قوات الدعم السريع.
لم يعجب ذلك رئيس أركان الجيش، إذ أراد أن يذهب المال لتعزيز القوات النظامية، لكن البشير كان متخوفا من وضع الكثير من السلطة في أيدي جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد أن طرد مديره للتو بتهمة التآمر ضده.
فأصبحت قوات الدعم السريع مسؤولة أمام البشير نفسه، وقد أعطى البشير لحميدتي لقب “حمايتي”، بمعنى “الذي يحميني”.
وأقيمت معسكرات تدريب بالقرب من العاصمة الخرطوم. تم استيراد المئات من شاحنات البيك آب لاند كروزر وتزويدها بالمدافع الرشاشة.
وقاتلت قوات الدعم السريع ضد المتمردين في جنوب كردفان – حيث كان أفرادها غير منضبطين ولم يحرزوا نجاحا كبيرا- وضد المتمردين في دارفور، حيث عملوا بشكل أفضل.
حميدتي من تاجر إلى تاجر الذهب
اشتد التنافس بين حميدتي وموسى هلال، وتحول حميدتي من تاجر إبل إلى تاجر ذهب، عندما اكتُشف الذهب في جبل عامر في ولاية شمال دارفور في عام 2012.
تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية في السودان، خاصة بعد انفصال جنوب السودان الذي استحوذ على 75 في المئة من نفط البلاد، ليأتي ذهب حميدتي كعوض للخرطوم عن انفصال وذهاب جنوب السودان بالنفط.
إلا أن هذا الذهب الذي سيطر عليه حميدتي، تبين أنه نقمة على رأس السودانيين، بعدما نجح حميدتي في استقطاب عشرات الآلاف من الشباب للتجنيد في قوات الدعم السريع كمرتزقة، فضلا عن اهتمام الشباب السوداني في العمل على زاوية نائية من دارفور لتجربة حظهم في مناجم الذهب الضحلة بمعدات بدائية، وقد وجد بعضهم ذهبا وأصبح ثريا، بينما سقط بعضهم في حفر بسبب انهيارات التربة أو تسمموا بالزئبق والزرنيخ المستخدم في معالجة قطع الذهب المستخرجة.
واستولى رجال ميليشيات موسى هلال وحميدتي الذين كانا يتنافسان على الذهب بالقوة على المنطقة، وقتلوا أكثر من 800 شخص من قبيلة بني حسين، وباتوا أثرياء عن طريق تعدين الذهب وبيعه.
وبِيع بعض الذهب للحكومة، التي دفعت أعلى من سعر السوق بالأموال السودانية لأنها كانت متلهفة للحصول على الذهب الذي يمكن بيعه في دبي مقابل العملة الصعبة.
وفي الوقت نفسه، تم تهريب بعض الذهب عبر الحدود إلى تشاد، حيث تم تبادلها بشكل مربح بطريقة تنطوي على شراء سيارات مسروقة وتهريبها إلى السودان.
وبحلول عام 2017، بلغت مبيعات الذهب 40 في المئة من صادرات السودان. وكان حميدتي حريصا على السيطرة عليها.
وكان يمتلك بالفعل بعض المناجم وأنشأ شركة تجارية تعرف باسم الجُنيد. ولكن عندما تحدى هلال الرئيس البشير مرة أخرى، ومنع الحكومة من الوصول إلى مناجم جبل عامر، قامت قوات حميدتي بشن هجوم مضاد.
وفي نوفمبر 2017، اعتقلت قواته موسى هلال منافسه الشرس، واستولى حميدتي وقواته على مناجم الذهب الأكثر ربحية في السودان.
حميدتي من تاجر الذهب إلى قوة إقليمية وتجنيد مرتزقة
بدأت قوة حميدتي بتوطيد التراكم السريع للثروة، بعدما استولى على مواقع تعدين الذهب الرئيسية في منطقة دارفور. بحلول عام 2017، وبالتزامن مع ثروته بدأ حميدتي في تطوير علاقات خارجية مهمة، وبدأ هذه العلاقات في عام 2015، عندما انضم السودان إلى تحالف تقوده السعودية لمحاربة المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، ليجد حميدتي الفرصة في الخروج للانتشار إقليميا، بعدما أرسل وحدات الدعم السريع إلى اليمن.
كما تم تكليف قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي بملف أمني رئيسي، وهي حراسة حدود المملكة العربية السعودية مع الدولة التي مزقتها الحرب.
وبدأت قوات حميدتي في النمو سريعا، لتصل إلى عشرات الآلاف، عن طريق استقطاب المرتزقة بالذهب، بما في ذلك الآلاف من الشاحنات الصغيرة المسلحة، التي كانت تجوب شوارع العاصمة الخرطوم بانتظام.
وبموجب عملية الخرطوم، مول الاتحاد الأوروبي الحكومة السودانية للسيطرة على الهجرة عبر الصحراء إلى ليبيا.
وفي عام 2015 ، وافقت الحكومة السودانية على إرسال كتيبة من القوات النظامية للخدمة مع قوات التحالف السعودية الإماراتية في اليمن – وكان قائدها الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم حاليا.
لكن بعد بضعة أشهر، أبرمت الإمارات العربية المتحدة صفقة موازية مع حميدتي لإرسال قوة أكبر بكثير من مقاتلي قوات الدعم السريع، للقتال في جنوب اليمن وعلى طول سهل تهامة – الذي يشمل مدينة الحديدة الساحلية، التي كانت مسرحا لقتال عنيف في عام 2018.
خيانة حميدتي لعمر البشير والظهور للإعلام
بد حميدتي مع تنامي دوره، في خيانة عمر البشير الرئيس السوداني السابق، وساعد في الإطاحة به.
وأصبح حميدتي بين عشية وضحاها أكبر تجار الذهب في البلاد ومن خلال السيطرة على الحدود مع تشاد وليبيا وهي أكبر قوة حرس حدود لها، بعدما تخلص من موسى هلال ووضعه في السجن.
ومن خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميا، أصبح حميدتي يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة، وبدأ حميدتي في الظهور بوسائل الإعلام، ممسكا بنفس العصا التي كان يمسك بها البشير، من أجل التلويح بأنه الرجل القادم في السودان.
وأصبحت شركة الجنيد، التي يديرها أقاربه، مجموعة ضخمة تغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب.
وعندما أقيل البشير في أبريل 2019، كان حميدتي أصبح واحدا من أغنى الرجال في السودان وكان في قلب شبكة من المحسوبية والصفقات الأمنية السرية.
وبات حميدتي يظهر أسبوعيا في الأخبار وهو يوزع الأموال على رجال الشرطة لإعادتهم للخدمة في الشوارع و للعاملين في قطاع الكهرباء لإعادتهم إلى مواقع عملهم والمعلمين للعودة إلى مدارسهم، أو يوزع السيارات على رؤساء العشائر.
وقد سيطرت قوات الدعم السريع على معسكرات قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي التي بدأت في الانسحاب من دارفور، قبل أن توقف الأمم المتحدة هذا الانسحاب.
ويقول حميدتي إنه زاد من عديد قوات الدعم السريع المشاركة في اليمن ونشر لواء في ليبيا للقتال إلى جانب قوات خليفة حفتر. ومن المحتمل أن تكون الإمارات هي من يدفع التكاليف المالية لذلك.
ووقع حميدتي اتفاقا مع شركة علاقات عامة كندية لتحسين صورته ومساعدته في الحصول على مدخل لعلاقات سياسية مع روسيا والولايات المتحدة.
حميدتي وفاغنر
استعان الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير بخدمات المرتزقة الروس للمساعدة في دعم نظامه المترنح في عام 2017، بعد لقاء جمعه مع بوتين والذي وعد فيه البشير هذا الأخير بجعل بلاده “مفتاح أفريقيا” لروسيا. وتضمنت الخطط المشتركة أيضاً إنشاء قاعدة للبحرية الروسية في البحر الأحمر في بورت سودان، وهو مشروع دعمته مجموعة “فاغنر”.
منذ ذلك الحين، وبحسب “تليغراف” مجدداً، زودت فاغنر السودان بكميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، بما في ذلك الشاحنات العسكرية والمركبات البرمائية وطائرات هليكوبتر للنقل.
لكن بعد سقوط البشير في عام 2019، أعاد المرتزقة الروس اصطفافهم إلى جانب اللواء عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية و”حميدتي” اللذين قادا في ما بعد انقلاباً أطاح المجلس العسكري الانتقالي في عام 2021. المرتزقة الروس وبحسب التقارير كانوا أكثر دعماً لحميدتي وقرباُ منه.
بعد ذلك، نجح حميدتي في فتح علاقات مع روسيا، و”فاغنر” الروسية، من خلال توريد المرتزقة للاشتراك في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وتوريد الذهب لروسيا مقابل تسليح قوات الدعم السريع.
وبدأت هذه العلاقة، عندما ساعد حميدتي في تشغيل شركة “ميرو غولد” Meroe Gold للتنقيب التي تفيد التقارير باستغلالها مناجم السودان وتهريب كميات هائلة من الذهب إلى خارج البلاد، بالتالي ملء جيوب زعيمها يفغيني بريغوجين وحرمان السودان من الإيرادات التي هو بأمس الحاجة إليها.
الأمر الذي ساعد بوتين في حربه الاقتصادية ضد الغرب، وجهود التهرب من العقوبات الأمريكية والغربية، والسماح له بتمويل حربه غير القانونية في أوكرانيا.
وكما ترى “تليغراف” فلقد ساعد حميدتي من السودان، الرئيس فلاديمير بوتين، عامداً أو مصادفة، بتمكين مجموعة فاغنر التي تستخدم نفوذها المتصاعد لنهب الدول الأفريقية وإثارة القلاقل حيثما حلت، كما أن حاجة بوتين الماسة إلى المال لدعم حربه منذ أن نفذ الغرب عقوبات صارمة جعل دعم الدولة الروسية مثل هذه الأعمال غير المشروعة ضرورة بصرف النظر عن الأثمان المدفوعة أو العواقب المترتبة على ذلك.
حميدتي ظاهرة متكررة
لا تبدو ظاهرة حميدتي وقوات الدعم السريع غريبة عن تاريخ منطقة وادي النيل، ففي القرن التاسع عشر انتشر مرتزقة وقطاع طرق على امتداد مناطق ما يعرف الآن بالسودان وجنوب السودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وكانوا يدينون بالولاء إلى الخديوي في مصر بيد أنهم أنشأوا في الوقت نفسه إقطاعياتهم أو (امبراطورياتهم) الخاصة.
وأصبح ظاهرة القرن الحادي والعشرين: رجل أعمال عسكري – سياسي، تتخطى امبراطوريته التجارية شبه العسكرية الحدود الإقليمية والقانونية.
واليوم ، يعد أقوى من أي قائد عسكري أو قائد مدني في السودان. فالسوق السياسي الذي يسيطر عليه هو أكثر ديناميكية من أي مؤسسات هشة تابعة للحكومة المدنية.
وبذلك حميدتي في صراعه الآن على السلطة، يعد نموذجا مكررا لمليشيات المرتزقة، التي تأتي بين الحين والأخر، لتؤسس تاريخا من الانقلابات، والصراع على السلطة، باسم الشعوب.
وينتظر أن يدفع الشعب ثمن هذه المليشيات، كما دفع ثمنها السياسيون حينما اعتقلت الحكومة السودانية عام 2014 الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، بسبب انتقاده لممارسات قوات الدعم السريع التي كانت تقاتل إلى جانب الحكومة في إقليم دارفور.