يوسف حدّاد… ممثلٌ يحترف الموقف كما يحترف الأداء

لبنان : شربل الغاوي
في عالمٍ بات فيه الأداء سلعة، والموهبة عرضًا موسميًا، يخرج صوتٌ من العمق، لا يحتاج إلى منصة كي يُسمع، ولا إلى بهرجة كي يُرى. ليس لأنّه يتوارى، بل لأنّه يرتفع بهدوئه. يوسف حدّاد ليس وجهًا يُضاف إلى زحمة الوجوه، بل حضورٌ يفرض احترامه من دون أن يطلبه.
هو من أولئك القادرين على تحويل الشاشة إلى مرآة لا تنقل شكله، بل تعكس جوهره. لا يتّكل على جاذبية اللحظة، بل يبني مصداقيته بتراكم الزمن. وكل مشهدٍ عنده لا يُقاس بطوله، بل بعمقه. التمثيل في عُرفه ليس تغطية وجهٍ بدور، بل كشف طبقة من إنسان.
في ملامحه مسار. في صوته وزن. وفي إيماءاته فلسفة أداء لا تُدرّس في المعاهد، بل تنبع من التكوين الشخصي، ومن فهم نادر لمعنى التقمّص لا كمحاولة تقليد، بل كغوص في الذات لاستخراج ما يشبه الشخصية من روح الممثل، لا من رسم الكاتب.
يوسف حدّاد لا يحترف التمثيل كوظيفة، بل يتعامل معه كقضية داخلية، كحالة وجدانية، كموقف يتبنّاه أمام كل شخصية يتقدّم نحوها. يدخل الدور لا كمَن يلبس قناعًا، بل كمَن ينزع أقنعته كلها ليصل إلى الحقيقة الوحيدة الممكنة: الصدق.
في زمنٍ تحوّلت فيه المهنة إلى ساحة استهلاك سريعة، يرفض أن يكون نسخة من أحد، أو استنساخًا لما يُطلب. يقاوم بتأنٍّ، لا بالصوت العالي، بل بالحرفيّة الصامتة، وبالمشهد الذي يمرّ كنسمة، ويترك وراءه عاصفة من التأمّل.
لا يتوسّل الإعجاب، بل يفرض الإحساس. لا يُراكم الأدوار، بل ينتقيها كما تُنتقى الحروف في قصيدة وُلدت لتُقال مرّة واحدة فقط. ومن هنا، تأتي خصوصيّته: فهو لا يكرّر نفسه، ولا يسرّب شخصيته إلى كل دور، بل يُعيد تشكيل نفسه تبعًا لما يتطلّبه الدور، دون أن يفقد هويته الحقيقية.
في أدائه، لغة خامسة لا تُنطق بالكلام، ولا تُعبّر عنها التعابير الجاهزة. كأنّه يعيد اختراع الشعور في كل مشهد، ويعلّب الحنين في نظرة، أو يكثّف الندم في تنهيدة. لا يحتاج إلى حركةٍ درامية ليفرض المشهد، لأنّ حضوره وحده هو الحدث.
ومن خلف الشاشة، يحمل حدّاد وضوحًا يشبه وضوحه الفني. لا يُساير الرأي العام، ولا يكتب ما يرضي الجميع. يغرّد خارج السرب حين يكون السرب منافقًا، ويقف على الهامش حين يكون المركز مزدحمًا بالمزيّفين. لا يُجمّل مواقفه، ولا يُطوّعها لأجل القبول العام. هو كما هو، في الكواليس كما على الشاشة، في الموقف كما في الأداء.
هو من أولئك الذين لا تعنيهم الضوضاء الإعلامية، لأنهم يعرفون أن مجد الفنان يُبنى من الداخل، لا من الصراخ الخارجي. وحين يتحدّث، تشعر أن كل كلمة محسوبة بميزان الصدق، لا بحساب التأثير. يكتب رأيه كما يؤدّي مشهده: بإحساسٍ واعٍ، لا يحتاج إلى تبرير.
ما يُميّزه ليس غزارة الظهور، بل كثافة التأثير. قد تمرّ لقطته سريعًا، لكنها تظلّ عالقة، كأنها كُتبت من حياة المُشاهد نفسه. يلتقط تفصيلًا من الموقف، ويُصقله بذكاء فني يجعله لامعًا دون ضجيج، بارزًا دون استعراض.
إنه الممثل الذي يعترف للجمهور بإنسانيته، لا بنجوميّته. يعرض نقاط ضعفه في الشخصية، فيجعل منها لحظات قوّة في الأداء. لأنّه يعرف أن الفنّ لا يُبنى على الكمال، بل على الصدق. وحين نُصدّق الممثل، ننسى أنه يُمثّل.
حدّاد ليس من الصنف الذي يخشى الغياب، لأنّه يعرف أنّ الأثر لا يُقاس بالتكرار، بل بالقيمة. ولأنّه يحترم الجمهور، لا يطلّ إلّا بما يستحق أن يُشاهد. يحضر حين يكون للحضور ضرورة، ويصمت حين يكون الصمت أبلغ. وهي معادلة لا يتقنها إلا القليل.
إنه من الممثلين الذين يحمون المهنة من التفاهة، ويُعيدون الاعتبار إلى التمثيل كأخلاق قبل أن يكون أداءً. يُدرك أن المسيرة لا تُبنى من الحظّ، بل من التعب. وأن البقاء لا تحقّقه الشهرة بل الجودة. وأن الزمن لا يحترم من يُكرّر نفسه، بل من يجتهد كي يتجاوزها.
وفي كل ما فعله، ظلّ يوسف حدّاد يُمثّل بشرف. وهذه صفة لا تُمنح، بل تُنتزع بالموهبة، وتُصان بالضمير. ومن يملك هاتين الركيزتين، لا يحتاج إلى لقب… يكفيه أن يُقال عنه: هذا هو الفنّ حين يكون رجلًا.
الناقد السينمائي شربل الغاوي.