مقالات

نفسُ الحكاية..


بقلم: أحمد يوسف ضميري

طولكرم-فلسطين


قبل عامين من هذا اليوم، السابع من أكتوبر، صليتُ الفجر في جماعة، ثم عدتُ إلى منزلي لأخذ قسطٍ من النوم، قبل أن أنهض مجددًا لأداء أعمالي. وقبل النوم تصفحت هاتفي قليلاً لأطّلع على أحدث المستجدات والأخبار.
فوجئت حينها بأنباء تتحدث عن اقتحامٍ عسكري نفّذته المقاومة الفلسطينية ضد مغتصبات غلاف غزة. بعد ذلك توالت الأخبار رويدًا رويدا، عبر الصور والفيديوهات التي كشفت عن هذا الاقتحام المفاجئ والرائد من نوعه.
أما الناس، فحدّث ولا حرج: فرحٌ في الشوارع، توزيعٌ للحلوى، إطلاقٌ للرصاص أحيانًا، لا سيما في المخيمات، وحديثٌ عن انتصارٍ مؤزّر وتحرير قريب لكل فلسطين.
ناهيك عن خطابات المقاومة التي جاءت لاحقًا، داعيةً إلى تحرير جميع الرهائن، وطرحت شروطًا واضحة أرادت أن ترغم الاحتلال بها.
لكن المشهد تغيّر كليًا عمّا بدا عليه في ذلك اليوم: قتلى، ودمار، وحصار، وتجويع في غزة، وزلزالٌ ضرب محور “المقاومة” من إيران إلى غزة، ومصادرةٌ للأراضي، وبوابات أقامها الاحتلال في الضفة الغربية، ونزوحٌ قسري فرضه الاحتلال على بعض المخيمات، في أعلى موجة نزوح تشهدها الضفة منذ حرب عام 1967.
هكذا هي الحروب التي يخوضها العرب مع الكيان الصهيوني منذ عام 1948 وحتى اليوم: نفس الحكاية تتكرر… خطاباتٌ ثورية، وطموحاتٌ عالية، ثم حربٌ عشوائية مع عدوٍّ لا يرحم، مدعومٍ بأعتى الأسلحة وأقوى تحالفٍ دولي على وجه الأرض، تحالفٍ لا يتوانى عن نصرة الكيان مهما كلّفه الأمر. ثم تنتهي الحكاية: بهزيمة للعرب، أو استسلام بطعم السلام.
وهنا أتذكّر ما قاله أبي، الشيخ: يوسف ضميري – رحمه الله – وما كتبه لاحقًا على صفحته في “فيسبوك” عام 2017، عن واقعٍ مشابه لما نحن فيه الآن، كان قد عايشه من قبل، فقال:
في زمن سحيق قبل حرب سبعة وستين وتحديدا في عام 1964م، خرجت مدارس وكالة الغوث على جانبي شارع نابلس الرئيس الذي يخترق بيارات الحمضيات في طولكرم. خرجت صفوفا ورايات … حتى نسوة مخيم طولكرم جئن بدفوفهن وزغاريدهن وأهازيجهن …
كنت فيمن خرج وكنت يومها في الصف الأول ابتدائي على ما أحسب، قيل لنا يومها: بأن الملك حسين (ملك المملكة الأردنية الهاشمية) -رحمه الله- قادم لزيارة طولكرم هذه المدينة التي تنام مع غروب الشمس.
أفراد شرطة .. حرس .. وآخرون .. في كل مكان
سيارات جيب .. موترسيجلات … وزوامير … جيئة وذهابا
بحت حناجرنا الفتية وهي تهتف مرحبة بمقدم الملك حسين الذي كنا نظن بأن شكله ربما يختلف عن أشكالنا بعض الشيء .. شيء يطل علينا من المدن المسحورة من ليالي ألف ليلة وليلة …
يعيش يعيش يعيش هذه هي معزوفتنا وقتئذ .. كم كنا فرحين بإيقاعاتها
بقينا واقفين ننتظر حتى أقبل الملك في موكب مهيب … سيارات مصفحة وموترسيجلات تسعى بين يديه ومن خلفه رايات تخفق وأقواس (( نصر )) هذا هو اسمها في أيامنا الغابرة قد نصبت وتصاوير كبيرة وهالات .. شيء ولا في الأحلام.. عرس وطني لم أشهد له مثيلا .
خرجت طولكرم بأسرها لاستقبال الملك حسين هكذا ظننت، سيارة كشف وقفت … أطل منها الملك ملوحا … تقدمت منه فتاة بزيها المدرسي قدمت له إكليلا من الورد ..
يعيش .. يعيش .. يعيش … تختلط بأهازيج النسوة المفعم بالفرح
تابع الموكب سيره …
كنت نقطة في بحر هذا الحشد المتلاطم حين فاض بجماهيره التي تركض من وراء الموكب
أمد بعنقي وأرفع جسمي على رؤوس أصابعي كي أرى شيئا فلا أرى غير أجسام متراصة تحجب عني أفق الرؤيا بقيت كزيتونة مرصوصة في مرطبان من حب الزيتون .. سعيدا سعيدا
أكيد الملك شيء فوق الوصف … لو أحظى برؤيته عن قرب
توقف الموكب عند مبنى بلدية طولكرم ( القديم ) حيث ترجل الضيف واعتلى درجات مبنى البلدية ذات الشكل المميز والتي كانت أسفل منها مدرسة طه حسين .. تكلم وجهاء مرحبين من ضمنهم الطبيب الوحيد في طولكرم الدكتور عواد.
من على مصطبة الدرجات الوسطى لمبنى البلدية، ألقى الملك حسين خطابا شعباوياً.. كانت فلسطين 48 تصغي هي الأخرى على بعد قذيفة مدفع من خطاب الملك الحامي، والذي كان يقطعه دوي تصفيق أشبه بدوي طائرة سابقة للصوت..
كنت ألهب أنا الآخر كفيّ بالتصفيق بسعادة بالغة رغم أني لم أكن أفهم شيئا
كنت أقول لمن يكبرني سنا ماذا يقول: مشان الله أحد يقول لي
فيقول لي: اسكت انت شو مفهمك خلينا نفهم عليه ….
أكيد أنه يقول كلاما مهما جدا يتعلق بالأرض التي هُجرنا منها عنوة …
أكيد أنه يتعهد لنا بالعودة أو شيء من ذلك، كما كانت تتعهد لي جدتي عايشة الموسى: والله يا جدة رايحن انروح قريب وأوخذك معي على البحر .. فأقول وأشوف السمك !!! ..
عرفت بعد ذلك أنه أشار إلى مناطق 48 من فلسطين التاريخية، وقال: لن ننسى حبة رمل ولن نساوم على حبة برتقال.
بعد هذه الزيارة ربما بثلاثة أعوام، وقعت حرب حزيران سبعة وستين فجبّت ما كان قبلها
نسينا تماما مناطق ثمان وأربع وصرنا نطالب بدويلة على أراضي مما احتل في سبعة وستين .. وتفاهمات.
كلما ساقتني قدماي من أمام مبنى بلدية طولكرم القديم، أتذكر هذه الزيارة الملكية بالغة الحفاوة …أهز رأسي وأتابع سيري. لا رجعنا يا جدتي يرحمك الله ولا يحزنون، بل تمددوا على كل رقعتنا وتمددوا …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews