مقالاتمنوعات

«بيتا».. حين تقاوم القرى الفلسطينية بالحياة

شبكة مراسلين
 بقلم: سجى عبد المجيد شبانة

عند التماس الأخير مع الضوء، تبدأ الحكاية

تقف بيتا، تلك القرية الفلسطينية الواقعة جنوب مدينة نابلس، عند نقطة التماس بين الأرض والمبدأ. لا هي مدينة تُخفي وجعها تحت الإسفلت، ولا هي حقلٌ يسهل اقتلاعه من الجذور، بل هي قريةٌ مفتوحة على وجه الاحتلال، لا تنحني، ولا تدّعي البطولة. فقط تعيش.. وتُقاوم بذلك.

في قلب المشهد الفلسطيني، تحضر بيتا كاستثناءٍ صارخ، ليس لأنها الأكثر تضررًا بالضرورة، بل لأنها أصرّت على أن تعيش الحياة اليومية كفعل مقاومة، وعلى أن تبقى في الذاكرة العامة، رغم ثقل التجاهل السياسي والإعلامي أحيانًا.

من الجبل تبدأ التفاصيل

في عام 2021، تحوّلت بيتا إلى عنوان لمرحلة جديدة من الصراع، حين أقيمت بؤرة استيطانية على جبل صبيح، الذي يُشرف على القرية من جهتها الجنوبية.

البؤرة التي حملت اسم “أفيتار”، لم تكن سوى فصلٍ جديد في رواية المصادرة التدريجية، ولكن ردّ بيتا كان استثنائيًا: تدحرج الغضب من سفوح الجبل إلى الميادين، وتحوّل المكان إلى مركزٍ دائم للمواجهة الشعبية.

المسيرات لم تكن منظمة من جهة حزبية أو فصائلية. لم تحمل شعارات أيديولوجية. كانت احتجاجًا خامًا، كما هي الأرض.

يخرج الناس كل أسبوع، كأنهم يمارسون طقوس الحياة على طريقتهم: يواجهون، يتراجعون، يعودون.
وفي الخلفية، تُرسم ملامح ما يشبه النضال المستمر من أجل الحق، لا لمكسب سياسي، بل لحماية الحكاية.

الحياة كاستراتيجية مقاومة

ما يُميّز بيتا ليس فقط احتجاجها على جبل صبيح، بل إصرارها على أن تحيا في ظل الخطر دون أن تتخلى عن ملامحها الطبيعية.
المدارس تفتح أبوابها رغم الإغلاقات المتكررة. الأسواق تبقى مزدحمة رغم التوتر. الأشجار تُزرع، والخبز يُخبز، والحقول تُحرث، كأن الحياة بحد ذاتها فعل عناد.
ليست بيتا وحدها في هذا المشهد، لكنّها جسّدت نموذجًا متقدّمًا للقرى الفلسطينية التي قرّرت ألا تكون خلف خطوط المواجهة فقط، بل في مقدمتها.. لا بالسلاح، بل بإرادة البقاء.

ما بعد المواجهة.. قرية في حالة استنفار دائم

منذ سنوات، تعيش بيتا في حالة تشبه “التأهّب”، لكنها لا تُشبه الجيوش. التأهب هنا يعني أن تكون مستعدًا لتعيش، وأن تُكمل أيامك كأنك لست مهدّدًا، رغم أنك كذلك فعلًا.
جدران المدارس تشهد على توتر الصباحات.
المحال التجارية تُغلق فجأة حين يُعلن عن اشتباك في الجوار.
الأطفال يتعلّمون باكرًا أن درب المدرسة قد يعبر من بين رائحة الغاز، وأصوات الجنود.
لكن مع ذلك، لا تغيب ملامح الاستمرار.
في بيتا، تُعاش الحياة لا بوصفها رفاهية، بل كخيارٍ وجودي، كإثبات دائم على أن الذاكرة لم تُمحَ، وأن الأرض لا تزال تُنادَى باسمها.

جبل صبيح.. صراع رمزي على الذاكرة

لا يُختصر جبل صبيح كجغرافيا فقط، بل بات يمثل رمزًا ذا طابع وطني.
هو مرتفعٌ صغير نسبيًا، لكنه في وعي الناس جبلٌ يساوي الكرامة.
وعليه، فإن كل محاولة للسيطرة عليه تُقابل بإصرار جماعي على استعادته – حتى ولو كان الاحتلال قد أخلَاه شكليًا، وأبقى عليه تحت المراقبة العسكرية.
القرية لم تنتظر قرارات رسمية ولا بيانات دعم دولية، بل صنعت وحدها مشهد الدفاع.
حملت أوجاعها، ولم تنتظر من يترجمها.

خارج التغطية الرسمية

ورغم رمزية بيتا، فإنها، كغيرها من قرى الضفة الغربية، تعاني من الغياب عن الميكروفون الرسمي.
ليست جزءًا من الاتفاقات، ولا من المشهد الإعلامي المستقر.
تظهر في التقارير فقط عند سقوط شهيد أو اندلاع اشتباك، لكنها تُغفل حين تزرع الأرض، وتُعلّم الأبناء، وتُجدّد الحكاية.
وهنا تكمن المأساة الأعمق: أن يقف شعبٌ على خطوط المواجهة، ثم يُترك وحيدًا على خطوط التغطية.

خاتمة: حين تُصبح الحياة فعلًا سياسيًا

ليست بيتا وحدها التي تفعل ذلك، لكنّها مثالٌ يصرخ بما لا يُقال:
أن تكون فلسطينيًا، يعني أن تعيش كل لحظة كما لو أنها دفاع عن وجودك.
أن تحمي قريتك لا بالشعارات، بل بالمحاصيل، بالأغاني، بالخُطى المتكررة على الطريق نفسه رغم التهديد.
بيتا ليست قرية فقط.
إنها حالة.ولعلّها اليوم، في هذا الزمن المتسارع، التذكير الأهم بأن الصمود لا يكون دائمًا في العناوين، بل في التفاصيل التي لا تُرى… لكنها تُصنع يومًا بيوم.

مقالات أخرى بقلم سجى عبدالمجيد شبانة :
نساء تحت النار: المرأة الفلسطينية بين الصمود والخذلان الدولي

«أبٌ يسير بالمأساة على ذراعيه».. شهادة وفاة في انتظار الوصول

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews