أبو الفشك قلب لا يُقهر: حكاية الرجل الذي هزم الإعاقة ووقف مع الثورة

شريف فارس ـ مراسلين
لم يبدأ لقب “أبو الفشك” من معركة ولا من جبهة، بل من لحظة بسيطة قبل الثورة بسنوات. كان لعبد الرحمن صديق يملك سلاحًا يجربه لأول مرة، لكنه لم يعرف كيف يطلقه. أخذ عبد الرحمن منه البارودة وأطلق رشقة سريعة، فالتفت صديقه مازحًا: “شبك يا أبو الفشك؟”… ضحك الجميع، وبقي اللقب معه حتى أيام الثورة والمعارك، ليصبح اسمًا يعرفه به الصغير قبل الكبير.

عبد الرحمن منافيخي، الرجل الذي ولد بــشلل أطفال، لم يسمح لإعاقته يومًا أن تكون حاجزًا أمام صوته. حين بدأت المظاهرات في حي الكلاسة بحلب، خرج رغم صعوبة الحركة، ووقف بين أهله وجيرانه يهتف للحرية. يقول إن أول يوم شارك فيه بمظاهرة حي بستان القصر كان كولادة جديدة
شعر أنه يستعيد كرامته، وأنه ليس “معاقًا”، بل إنسانًا يقف وسط شعبه، يُحسب، ويُسمَع، ويُحترم. كان الناس يحتضنونه معنويًا، ويرفع معنوياتهم، ويقولون له: “نحنا وياك واحد وجودك بينا قوة.”
حتى زوجته شاركته المظاهرات منذ الأيام الأولى، وكانت سندًا له في كل خطوة من الطريق الثوري.

ومع ازدياد القمع، صار الألم أكبر من أن يُحتمَل.
وحين شاهد ذلك الطفل من حمص يبكي عبر الشاشة، يستنجد: “يا غيرة الدين وينكم؟” ضربت الكلمات قلبه كالرصاص. باع ذهب زوجته، جمع ما يملك، واشترى سلاحًا وذخيرة. لم يكن شراء السلاح لحماية نفسه، بل لحماية الناس الذين هتفوا معه، ولأجل طفل لا يعرفه بكى أمام العالم.
من أبناء حارته وإخوته وأولاد عمومته وأصدقائه، شكّل بذرة “كتيبة أحرار الكلاسة”.
كان أخوه أحمد، المعروف بأبو عبدو كلاسي، يده اليمنى في كل تفصيل، لا يخذله أبدًا. وكان ابن أخيه عبد الرحيم شريكًا في المعارك، إلى أن أصيب إصابة شديدة في إحدى معارك صلاح الدين أثناء صدّ هجوم للنظام البائد، ما تسبب له بإعاقة دائمة، فكانت تلك الضربة واحدة من الجروح العميقة التي دفعتها العائلة ثمنًا للثورة.
جمع عبد الرحمن المقاتلين، وقال لهم:
“مين عنده خبرة بالقيادة؟ لنتقدم كرمال الناس، مو كرمال المناصب.”
لكن الجميع أصرّ عليه هو. حكمة الرجل، ونظافته، وخوفه على حياة الشباب، جعلتهم يختارونه قائدًا. حاول أن يرفض، لكنه اضطر للقبول حين رأى أن المسؤولية لم تعد خيارًا، بل واجبًا.
خاضوا أكثر من معركة في حلب. حرروا مناطق، وصدوا هجمات، وحملوا على عاتقهم حماية المدنيين. كانت الكتيبة اسمًا حاضرًا بقوة، ومع الوقت انضمت إلى تشكيلات الجيش الحر التي أعادت تنظيم نفسها.
وحين بدأت فصول السقوط في حلب، شعر عبد الرحمن بأن المدينة تُسحب من صدره. خرج مضطرًا مع عائلته إلى بلدة السلوم، حيث أبناء عمومته. لكن القدر لم يتركه يلتقط أنفاسه
أثناء تجهيزهم لمنزل بسيط، وقع حادث سير مروّع تحت القصف، وفقد فيه ابنه الوحيد عبد الغفور—طفلًا في الثالثة عشر من عمره، كان بمثابة كل حياته.
يقول: “وقفت فوقه حسّيت الدنيا كلها عم توقع… حسّيت قيامتي أنا بس.”
ومع ذلك، لم تجفّ نار الثورة في داخله. فقد مدينته فقد ابنه وبدلًا من الانكسار، زاد إصراره على مقاومة النظام الذي خطف منه كل شيء.
ومع الوقت، اضطر لترك العمل العسكري.
جمع مقاتليه وأخبرهم أنه لم يعد قادرًا على المتابعة، وأن إعالته لعائلته صارت أولوية بعد فقدان ابنه. تفرّق الرجال بين الفصائل، بينما هو بدأ من الصفر: عمل محاسبًا، واتجه للتجارة، وحاول ألا يحتاج لأحد رغم إعاقته.
لكن رحلة التهجير لم تنتهِ. نزح مرة أخرى إلى مدينة سلقين بعد تقدم قوات النظام البائد نحو ريف حلب الغربي، ليخسر رزقه مرة أخرى. عانى الغربة مرة أخرى، لكنه ظل يقول: “الله بيعوض والنصر قادم.”
واليوم بعد سقوط النظام واستعادة الهواء الحر، عاد إلى حلب وريفها ليجد الدمار، لكنه وجد مع الدمار بابًا مفتوحًا. فالأرض التي هُدمت، يمكن إعادة بنائها أما الطغيان حين يسقط، فلا يعود.
رسالته اليوم للشباب:
“يا شباب سورية دفعت مليون شهيد. لا تستهينوا بهالدم. كونوا سند للحق، وارفعوا راسكم هالبلد إلنا، ولازم نحميها.”
ربما خسر عبد الرحمن مدينته، وصحته، وولده الوحيد… لكنه لم يخسر يومًا إيمانه بأن الحرية تستحق. اختبر الثورة بكل أوجاعها، وعاش أثقل ما يمكن أن يحمله قلب إنسان، وبقي واقفًا.
في قصة “أبو الفشك” يتبيّن أن البطولة ليست في القوة، بل في الإرادة وأن الأثر الحقيقي لا يتركه السلاح وحده، بل القلب الذي لم يتراجع مهما ضربته الأيام.




