مقالات

في اليوم العالمي للعمل اللائق: من يحفظ بقاء السودان وسط الفوضى؟

بقلم: ممدوح ساتي

يُحتفى اليوم، السابع من أكتوبر، باليوم العالمي للعمل اللائق، وهو مناسبة أطلقتها منظمة العمل الدولية لتذكير العالم بأن الكرامة في العمل حق إنساني أصيل، لا ترفًا اجتماعيًا.
في هذا اليوم، تُرفع الشعارات حول العدالة في الأجور، والأمان الوظيفي، والمساواة في الفرص، والحق في بيئة عمل تحفظ للإنسان قيمته.

غير أن هذه المبادئ، التي تبدو بديهية في مجتمعات مستقرة، تتحول في مناطق الصراع إلى أحلام بعيدة المنال.

في بلدان كثيرة مزّقتها الحروب، صار “العمل اللائق” ترفًا نادرًا لا يطال سوى القلة المحظوظة.

فالعامل الذي كان ينتج في مصنع، أصبح يبحث عن قوت يومه في سوق غير منظم، والمزارع الذي كان يفلح أرضه بات لا يملك سوى ذكريات المواسم الغابرة.

ملايين من البشر، في مناطق النزاع ، وجدوا أنفسهم مضطرين لممارسة أعمال هامشية تفتقر لأي حماية أو استقرار، فقط ليبقوا على قيد الحياة.

المأساة في السودان اليوم تبدو أكثر تركيبًا وتعقيدًا، إذ تتقاطع فيها الحرب مع أزمة اقتصادية طاحنة وانهيار إداري متسلسل.
فمنذ اندلاع القتال في أبريل 2023، أصبح النزوح الجماعي هو العنوان الأبرز، ومعه تبددت فرص العمل التي كانت قائمة في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص.

آلاف الكفاءات العلمية والمهنية، من أطباء ومهندسين ومعلمين وإداريين، وجدوا أنفسهم بلا وظائف، يحملون خبراتهم في جيوب خاوية ويكافحون للبقاء عبر أعمال لا تمت لتخصصاتهم بصلة ، من البيع في الأسواق إلى الأعمال اليدوية البسيطة.

وفي ظل تضخم خانق وارتفاع متواصل في الأسعار، باتت المرتبات الحكومية عاجزة عن تغطية الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، بينما تتأخر وزارة المالية في صرف المستحقات والبدلات حتى أصبحت الرواتب تفقد قيمتها قبل أن تصل إلى أصحابها.

أما من يُسمون بسماسرة الحرب، فقد ازدهرت تجارتهم في هذا الركام، إذ وجدوا في الأزمات منفذًا للربح السريع، يرفعون الأسعار، ويحتكرون السلع، ويزيدون من معاناة المواطن الذي يكدّ ليجد ما يسد به رمق أسرته.

وبرغم هذا المشهد القاسي، يظل العاملون في الجهاز الحكومي للدولة مثالًا نادرًا للصبر والانتماء.
هؤلاء الذين يواصلون الحضور إلى مواقع عملهم يومًا بعد يوم، رغم الأجر غير المجزي وغير اللائق، هم في الحقيقة من يمنعون الدولة من الانهيار الكامل. فهم العمود الفقري للمؤسسات العامة، يحافظون على الحد الأدنى من الخدمات، ويسيرون شؤون الناس بإمكانات ضئيلة وإصرار كبير.

فالدولة ليست مجرد أرض وحدود، بل هي شعب وقانون ومؤسسات، ولا بقاء لدولة بلا مؤسسات ولا استمرارية بدون من يضحّون في صمت كي لا تتوقف عجلاتها.

وسط هذا الواقع، يصبح الحديث عن “العمل اللائق” في السودان أقرب إلى مفارقة مؤلمة.

فالمواطن السوداني لا يطالب اليوم بترف الوظيفة المستقرة أو بيئة العمل المثالية، بل فقط بفرصة عمل تحفظ له الحد الأدنى من الكرامة في واقعٍ يلتهم فيه الغلاء ما تبقى من الدخل.

إن الحرب لم تدمّر البنية الاقتصادية فحسب، بل أضعفت روح الانتماء والإنتاج، وخلقت حالة عامة من الإحباط بين العاملين الذين يرون جهدهم يضيع أمام عجز الحكومة عن إدارة الملف الاقتصادي بفعالية.

فبين تأخر المرتبات، وتدهور قيمة العملة، وتراكم الأزمات المعيشية، تبدو مؤسسات الدولة وكأنها تسير بلا بوصلة اقتصادية واضحة.

وفي خاتمة هذا اليوم العالمي، يحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن الحديث عن “عمل لائق” في وطنٍ تنهشه الحرب وتستنزفه الأزمات؟
إن الكرامة في العمل ليست مجرد شعار أممي، بل هي مسؤولية وطنية تتطلب من الدولة أن تعيد النظر في أولوياتها، وتمنح الإنسان — قبل الأرقام — حقه في الأمان والعيش الكريم.

ففي النهاية، لا يُقاس تقدم الأمم بما تملكه من موارد، بل بقدرتها على صون كرامة أبنائها، حتى في أقسى الظروف.
والسودان، إن أراد النهوض من رماده، فعليه أن يبدأ بإعادة الاعتبار لقيمة العمل، ولأولئك الذين ما زالوا يقاتلون في صمت، لا من أجل السلطة، بل من أجل لقمة عيش تحفظ إنسانيتهم ودولة تحيا بفضل عرقهم اليومي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews