مقالات

الصحة النفسية في زمن الانكسار: بين الألم والأمل

بقلم: ملاك موصللي- حلب

في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات كما تتكاثر الغيوم فوق مدينةٍ منكوبة، وتتشابك فيه الخسارات كما تتشابك أصوات الراحلين في ذاكرة المنفى، تصبح الصحة النفسية ليست ترفاً، بل شرطاً للبقاء، وركيزةً من ركائز الصمود الإنساني.

فالعقل الذي أثقلته صور الحرب، والنفس التي أنهكها التهجير، والقلب الذي لم يعد يعرف الطمأنينة، كلّها تحتاج إلى رعاية لا تقل أهمية عن رغيف الخبز وجرعة الدواء، بل إنّها في كثير من الأحيان، تسبقهم في سلم الأولويات، لأنها تمنح الإنسان القدرة على الاستمرار، على الحلم، على بناء الذات من تحت الركام.

حين يصبح الألم مادةً للوعي

الصحة النفسية ليست مجرد علاج للاكتئاب أو القلق، بل هي منظومة متكاملة من الدعم، التمكين، والاحتواء. هي القدرة على إعادة تعريف الذات في ظل الفقد، وعلى تحويل الانكسار إلى طاقة خلاقة، وعلى بناء جسور داخلية تعبر فوق هاوية الخوف.

وفي سياق المجتمعات التي تعاني من النزوح، والفقد، والتفكك الأسري، تصبح الصحة النفسية حجر الأساس لإعادة البناء الداخلي قبل الخارجي، إذ لا يمكن ترميم البيوت ما لم تُرمّم الأرواح، ولا يمكن إعادة إعمار المدن ما لم تُعاد الثقة إلى القلوب.

جمعية القلب الأخضر: حين ينبض المجتمع من الداخل

في هذا السياق، برزت جمعية القلب الأخضر كواحدة من الجهات التي أدركت أن التعافي لا يكون إلا من الداخل، وأن بناء الإنسان هو الخطوة الأولى نحو بناء المجتمع.

ضمن مشروع “تمكين 25” في مركز سند، أطلقت الجمعية تدريباً مهنياً في الصحة النفسية امتد على مدار يومين، بواقع 6 ساعات من العمل المكثف، الذي لم يكن مجرد ورشة عمل، بل كان بمثابة ولادة جديدة لكوادر محلية حملت على عاتقها مهمة إعادة التوازن النفسي للمجتمع.

محاور التدريب: من الألم إلى التمكين

شمل التدريب مهارات الدعم النفسي، وأساليب التواصل مع الفئات الهشة، والكثير من الأشياء التي تدعم الذات خاصة تلك التي تعاني من آثار الحرب، الفقد، أو العنف الأسري.

وقد تميز هذا التدريب بكونه استجابة مباشرة لانتشار ظواهر اجتماعية خطيرة، أبرزها الانعزال، والانتحار بين الشباب.

ولم يكن التدريب معزولاً عن الواقع، بل جاء من رحم الحاجة، ومن صوت الشارع، ومن وجع الأمهات اللواتي يبحثن عن بصيص أمل لأبنائهن.

التشبيك المجتمعي: بناء منظومة دعم متكاملة

لعبت جمعية القلب الأخضر دوراً محوريًا في التشبيك بين الجهات الرسمية والمجتمعية، لتأسيس فريق كامل في مجال الدعم النفسي، قادر على مواجهة التحديات المتفاقمة.

فالجمعية لم تكتفِ بتقديم التدريب، بل سعت إلى خلق شبكة من العلاقات المهنية والإنسانية، تربط بين المتخصصين، والناشطين، والمستفيدين.

وقد تمخض عن هذا التشبيك خارطة طريق أولية، تهدف إلى إدماج الصحة النفسية في البرامج التنموية، التعليمية بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من أي تدخل مجتمعي.

وفي ضوء ذلك أوضح مدير الجمعية خلال لقاء خاص الاستاذ”احمد فؤاد كلو” أن كل جلسة تشكل فرصة لزرع أفكار إيجابية، ونبض جديد في حياة المشاركين؛ مما يعزز من قدرتهم على التفاعل الاجتماعي وتحقيق التوازن النفسي.

وفي سياقه، أكد أن النتائج المستدامة لهذه التدريبات قد تثمر في مستقبل كل فرد ومجتمعه المحلي، لافتاً إلى استمرار سلسلة تمكين 25 لتشمل المزيد من التدريبات والورش التي تدعم الصحة النفسية وتنمي المهارات الحياتية بما يسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكاً واستقراراً.

كما نوّه “كلو” بأن هذه المبادرة تأتي ضمن خطط جمعية القلب الأخضر الهادفة إلى تمكين الشباب والأفراد، وتزويدهم بالأدوات النفسية والاجتماعية اللازمة لتعزيز الوعي الذاتي وبناء بيئة داعمة وصحية في المجتمع

الجمعيات كقلبٍ نابض في جسدٍ منهك

في ظل غياب البنية التحتية الرسمية، تلعب الجمعيات دوراً لا يُقدّر بثمن في دعم الصحة النفسية، فهي لا تكتفي بتقديم الخدمات، بل تخلق شبكات أمان، وتعيد بناء الثقة، وتمنح الأفراد أدوات للنجاة النفسية.

فالجمعيات هي جنود المقاومة الصامتة، التي لا تُرى في نشرات الأخبار، لكنها تُحسّ في نبض الناس، وفي قدرتهم على الاستمرار، وعلى الحلم، وعلى إعادة تعريف الحياة.

من الانكسار إلى التعافي

وفي الختام، نؤكد أن جمعية القلب الأخضر ليست مجرد منظمة، بل هي رمز لتحوّل الألم إلى فعل، واليأس إلى تدريب، والانكسار إلى تعافي، وهي الشعلة التي تُضاء في العتمة، واليد التي تُمدّ حين تنكمش الأرواح.

وفي كل مجتمع يعاني، هناك دائمًا حاجة إلى من يحمل هذه الشعلة، ويضيء الطريق نحو التوازن الداخلي، فالصحة النفسية ليست رفاهية، بل مقاومة، والجمعيات هي جنود هذه المقاومة، التي تزرع الحياة في النفوس، وتعيد للإنسان قدرته على أن يكون إنساناً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews