السودان بين التفكك وإعادة التشكيل: قراءة في أبعاد الصراع ومقاربات الفعل الإقليمي والدولي

بقلم : آلاء أسيل بو الأنوار
منذ اندلاع الصراع المسلح في السودان في أبريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يعيش البلد واحدة من أعقد أزماته السياسية منذ الاستقلال.
فالمواجهة ليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالين، بل هي تعبير عن تفكك بنيوي للدولة السودانية وتنافس على إعادة صياغة مستقبلها السياسي والجغرافي.
وتتجاوز الأزمة حدود الداخل لتنعكس على الأمن الإقليمي في القرن الإفريقي ومنطقة الساحل والبحر الأحمر، مما جعلها ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.
أولاً: البعد الداخلي – تفكك السلطة وغياب المشروع الوطني
تُظهر بنية الصراع السوداني هشاشة الدولة المركزية منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019.
فالثورة التي كانت من المفترض أن تُؤسس لنظام مدني ديمقراطي انتهت إلى شراكة هشة بين العسكريين والمدنيين، سرعان ما انهارت تحت ضغط المصالح والنفوذ.

الجيش السوداني يرى نفسه حامي وحدة الدولة وممثل الشرعية السيادية.
قوات الدعم السريع نشأت في الأصل كقوة موازية لمكافحة التمرد في دارفور، لكنها تحوّلت تدريجيًا إلى فاعل سياسي واقتصادي مستقل مدعوم بموارد مالية ضخمة.
هذا الازدواج في مراكز القوة جعل السودان يعيش حالة “الدولة المتعددة السيادات”، حيث تتوزع أدوات العنف بين الجيش الرسمي وقوات شبه نظامية تملك تمويلًا خارجيًا ونفوذًا ميدانيًا.
ويُبرز الصراع أيضًا فشل النخب السياسية والمدنية في بناء مشروع وطني جامع قادر على تجاوز منطق القبيلة والإثنية والجهة.
ثانيًا: البعد الإقليمي – صراع المحاور العربية والإفريقية
السودان اليوم ليس معزولًا عن بيئته، بل يمثل نقطة تماس لمجموعة من القوى الإقليمية ذات المصالح المتداخلة:
1 . مصر تدعم المؤسسة العسكرية التقليدية بقيادة البرهان، انطلاقًا من مخاوفها من انهيار الدولة السودانية وما قد يترتب عليه من تهديد لأمنها المائي والحدودي.
2 . الإمارات – وفق عدة تقارير أممية – يُشتبه في دعمها لقوات الدعم السريع ماليًا ولوجستيًا، سعيًا لتوسيع نفوذها في البحر الأحمر ومنطقة الذهب السودانية.
3 . السعودية تحاول التوازن بين الطرفين وتقديم نفسها كوسيط من خلال منصة “جدة” للحوار السوداني.
4 . إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان تتابع التطورات بقلق، خوفًا من انتقال الفوضى عبر الحدود، خاصة وأن بعضها يحتضن لاجئين ومجموعات إثنية متداخلة.
إذن فالصراع في السودان يُجسّد تجاذب محاور عربية-إفريقية تتنافس على النفوذ والموارد، ما جعل الأزمة السودانية مرآة لصراع أوسع على إعادة تشكيل موازين القوة في إفريقيا.
ثالثًا: البعد الدولي – التنافس على البحر الأحمر والموارد
السودان يمتلك موقعًا جيوسياسيًا استراتيجيًا على البحر الأحمر، ويُعدّ بوابةً نحو العمق الإفريقي الغني بالثروات المعدنية والزراعية.
لذلك، أصبح مجالًا لتقاطع مصالح القوى الكبرى:
الولايات المتحدة تسعى لمنع روسيا من إقامة قاعدة بحرية على الساحل السوداني، وتخشى من تمدد النفوذ الصيني عبر مشاريع البنى التحتية.
روسيا تدعم ضمنيًا بعض الفاعلين داخل السودان من أجل تأمين وجودها في البحر الأحمر ضمن استراتيجيتها لمواجهة الغرب.
الاتحاد الأوروبي ينظر للأزمة من زاوية الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب.
بينما تحاول الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لعب دور الوسيط، لكن دون نجاح يُذكر، بسبب تضارب أجندات الأطراف الخارجية.
هذه التعددية في الفاعلين جعلت الأزمة السودانية نموذجًا لحروب الجيل الجديد، حيث تتقاطع مصالح الشركات الأمنية الخاصة، والتهريب العابر للحدود، والسياسات الدولية في فضاء واحد.

رابعًا: المقاربات السياسية لتحليل الأزمة
1 . المقاربة الواقعية (Realist Approach):
ترى الواقعية أن ما يجري في السودان هو صراع على السلطة والموارد بين فاعلين يسعون إلى تعظيم قوتهم في غياب سلطة مركزية قوية.
الجيش والدعم السريع يمثلان وحدتين سياسيتين داخل نظام فوضوي، تتحركان وفق منطق “البقاء للأقوى” وليس وفق اعتبارات وطنية أو أيديولوجية.
2 . المقاربة البنائية (Constructivist Approach):
من منظور بنائي، الصراع ليس فقط ماديًا بل هوياتيًا؛ إذ يتغذى على روايات متعارضة حول “من هو الوطني؟ ومن يملك الشرعية؟”.
وتلعب الخطابات الإعلامية والدينية والقبلية دورًا في إعادة إنتاج الانقسام الاجتماعي والسياسي.
3 . مقاربة الأمن الإنساني (Human Security Approach):
تُظهر الأزمة أن مفهوم الأمن التقليدي القائم على حماية الدولة لم يعد كافيًا، فالسوداني اليوم يواجه تهديدًا وجوديًا في حياته ومعيشته، بعد انهيار المؤسسات والخدمات.
أكثر من 7 ملايين نازح، وانهيار شبه كامل للنظام الصحي والتعليمي، ما يجعل السودان أمام كارثة إنسانية تفوق الأبعاد العسكرية.
4 . مقاربة فشل الدولة (Failed State Approach):
يمكن اعتبار السودان نموذجًا كلاسيكيًا للدولة الفاشلة، حيث تفقد السلطة السيطرة على الإقليم والسكان، ويتحول العنف إلى وسيلة تفاوض دائمة.
خامسًا: مستقبل السودان – بين التفكك وإعادة البناء
السيناريوهات المحتملة للأزمة السودانية تتراوح بين:
1 . السيناريو التشاؤمي: استمرار الحرب وتحول السودان إلى “ليبيا جديدة” تتقاسمها قوى داخلية وخارجية.
2 . السيناريو التوافقي: نجاح وساطة إقليمية في فرض هدنة طويلة تفتح المجال لتسوية سياسية.
3 . السيناريو الانقسامي: تفكك الدولة فعليًا إلى أقاليم متصارعة (دارفور، كردفان، الشرق)، وهو الأخطر على الأمن الإقليمي.
لكن يبقى الحل الحقيقي في بناء مشروع وطني جامع يضع حدًا للعسكرة السياسية، ويعيد السلطة إلى المدنيين عبر عملية انتقالية تضمن تمثيل كل المكونات.
ما يجري في السودان اليوم هو اختبار حقيقي لقدرة العالم العربي والإفريقي على معالجة أزماته دون وصاية خارجية.
إنه صراع على هوية الدولة قبل أن يكون صراعًا على الحكم، ويعكس فشل النخب في إدارة التنوع وتحويله إلى مصدر قوة لا انقسام.
أما القوى الإقليمية والدولية، فقد جعلت من السودان ساحة لتصفية الحسابات وتوسيع النفوذ، في غياب تام لإرادة سودانية موحّدة.
يبقى الأمل في أن تُفضي هذه المأساة إلى وعي جديد يدفع نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية قادرة على تجاوز إرث الانقلابات والولاءات الضيقة، وإعادة السودان إلى مكانه الطبيعي كجسر حضاري بين العالم العربي وإفريقيا.



