أخبارتقارير و تحقيقات

أقتل … أقتل … ثم تعالَ واسترح في إيطاليا

سيف الدين رحماني – مراسلين

في سبتمبر / أيلول 2025، تهبط طائرة حربية للنقل واللوجستيك، إسرائيلية المقدم، في القاعدة العسكرية الأمريكية “سيغونيلا”.

تُعد “سيغونيلا” ونيسيمي (صقلية) قاعدة عسكرية متخصصة في الرصد والتجسس والاستطلاع وجمع المعلومات، باستخدام أجهزة الرصد والطائرات المسيرة والأقمار الصناعية متخصصة في دول جوار حوض البحر الأبيض المتوسط.

وتعتبر هذه القاعدة، التي تقع بالقرب من كاتانيا، في جزيرة صقلية من أكثر القواعد نشاطًا وأهمية في البحر الأبيض المتوسط، وتديرها القوات الإيطالية والأمريكية بشكل مشترك. كما تعد مركز إطلاق لمهام الاستطلاع بالطائرات المسيرة. وعلى مقربة منها، في نيسيمي، تقع محطة “مووس” المثيرة للجدل، المتخصصة في الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، والتي أثارت احتجاجات بيئية مؤخرًا ولغطا لدى نشطاء البيئة والإيكولوجيا.

تعد إيطاليا الحاضنة الثانية الأكثر زخمًا للترسانة الحربية الأمريكية بعد ألمانيا.

الشاهد أن تلك الطائرة أقلت جنودًا إسرائيليين شاركوا في الإبادة الجماعية في غزة، قدر عددهم بأكثر من 100 جندي، كانوا قد حصلوا على إجازتهم أو ما اصطلح عليها بفترات “تخفيف الضغط النفسي”، وفضلوا قضاءها في إيطاليا في أجمل المناطق السياحية الإيطالية، إقليم “ماركي وسردينيا”.

في فندق “مانجياز” mangias التابع لسلسلة الفنادق العالمية “هيلتون” المتواجد في سانتا تيريزا ديغالورا، بجزيرة سردينيا، وبضوء أخضر من الحكومة الإيطالية. استقبلت الحكومة الإيطالية بقيادة ملوني عشرات الجنود رجالا ونساءا، لقضاء أيام الإجازة، في فنادق شتى، كانوا يرقصون على آهات الأطفال القتلى وأنات النساء الثكالى، في شواطئ سردينيا و بضور كثيف للشرطة الإيطالية و حراسة أمنية مشددة من طرف عناصر المخابرات الإيطالية “الديغوس” وأفراد الكارابينييري (الدرك الإيطال).

أثار هذا السلوك الذي أبدته ميلوني حفيظة بعض النواب في البرلمان الإيطالي، وطالبوها بتوضيح على الفور عن ما إذا كان هناك اتفاق رسمي أو غير رسمي مع إسرائيل لاستضافة هؤلاء الجنود؟ و من أذن بتنظيم إقامتهم في أراضينا؟”.

أعلنت حركة 5 نجوم وتحالف الخضر أنهما قدّمتا هذه الأسئلة لمعرفة ما إذا كانت السلطات الإيطالية قد أبلغت بهذه الرحلات وما إذا كانت قد شاركت بطريقة ما في تنظيمها.

و قال حينها أنجيلو بونيلي، نائب تحالف الخضر واليسار والمتحدث المشارك باسم أوروبا الخضراء:

“إنه فصل آخر من التواطؤ السياسي والأخلاقي الذي لم يعد بإمكاننا تحمله”. لذا “يجب إلغاء اتفاقية التعاون العسكري بين إيطاليا وإسرائيل على الفور ويجب قطع جميع أنواع التعاون مع الجيش المسؤول عن الإبادة الجماعية المستمرة في غزة”.

واستفسرت الكتلة الحزبية من رئيس الوزراء ميلوني، ووزير الخارجية تاجاني، بقولهم: “هل يمكنكم شرح هذه الفعلة السخيفة والقول بوضوح في أي جانب تقع فيه إيطاليا، سواء مع الضحايا أو مع الجلادين؟”.

و الغريب أن هذه الاستضافة لهؤلاء الجنود، عناصر الجيش الإسرائيلي، في المنتجعات السياحية الإيطالية، جاءت مباشرة بعد قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية المقاتلة في 2 سبتمبر 2025 لقواعد اليونيفيل الأممية في لبنان، وهي قوات حفظ السلام تشرف عليها القيادة العسكرية الإيطالية في دورتها الحالية، لكن ميلوني لم تنبز ببنت شفة، ولم يطرف لها جفن كأنها لا تسمع ولا ترى. ولا وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني تفاعل مع الحدث، وفي اليوم التالي مباشرة تهبط تلك الطائرة في صقلية.

رأى كثير من المراقبين أمثال الصحفي و الكاتب الإيطالي “ألبرتو نيغري” في مقال له على صحيفة “il manifesto” بأن هذه الأساليب تنم عن دولة خارجة عن القانون، تعمل ضد جميع الاتفاقيات الدولية، وما زلنا ندعمهl إسرائيل ونساعدها منذ سنوات دون أن نفعل أي شيء ضد خروقاتها. نحن هكذا بالفعل متواطئون أخلاقيًا وماديًا، ونبرر لإسرائيل دائمًا ونعضدها في إجرامها واستعمارها. في كل هذا، نحن هنا في الغرب نسمح لإسرائيل بالإفلات من العقاب دائمًا.

عندما يذهب شخص ما إلى أبعد من ذلك قليلاً في النقد، يتم تشغيل أسطوانة معاداة السامية المشروخة. أو يتم السخرية منه كما فعل وزير الخارجية الإيطالي مع الممثل السامي للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، عندما طلب من الدول الأعضاء تقييم العقوبات ضد بعض الوزراء الإسرائيليين للتعبير عن “رسائل الكراهية” ضد الفلسطينيين الذين يُعتقد أنهم ينتهكون القانون الدولي.

أصبحت إسرائيل تمامًا كدولة مارقة كما يصف نعوم تشومسكي، الكاتب الأمريكي صاحب كتاب الدول المارقة، حقا صعب على القانون الدولي إخضاعها.

أما في روما فاعتبر ذلك اعتداء صارخًا على ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي لإيطاليا، وهي سلامة وأمن المواطنين داخل وخارج الحدود الإقليمية… لأن من كان يتواجد في القاعدة هم جنود ومستشارون أمميون، إيطاليون و إداريون وغيرهم من المصالح المدنية والعسكرية.

لا يأخذ منا العجب مأخذه إذا علمنا أن إيطاليا وإسرائيل وقعتا اتفاقية التعاون المشترك في المجالات العسكرية والتكنولوجية والتجارية في فترة حكم الراحل سيلفيو برلسكوني سنة 2005.

وبحلول عام 2020، كانت إيطاليا ثالث أكبر مزود للأسلحة لإسرائيل، بعد واشنطن وبرلين. علاوة على ذلك، في يونيو 2021، أُجريت تمارين عسكرية مشتركة بمشاركة طيارين من إسرائيل وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا على طائرات F-35، مما شكل مؤشرًا إضافيًا على ابتعاد إيطاليا وأوروبا عن الدور المحايد المزعوم في الصراع الإسرائيلي / الفلسطيني. ومن الملفت أن التدريب جرى بعد أسابيع قليلة من قصف القوات الجوية الإسرائيلية لغزة في مايو.

حسب ما نقلته “فياما نيرنشتاين” اليهودية الإيطالية، صحفية سابقة في “il giornale”، ثم نائبة برلمانية عن حزب برلسكوني. وهي عضوة فعالة في جماعات الضغط الصهيونية، مثل AJC وWJC. وكتبت مطولًا في الدفاع عن الكيان و لها مقال مشهور نشر في المواقع الإيطالية بعنوان” إسرائيل كدولة ديمقراطية مهددة من الإسلام السياسي”، وتروج لفكرة “تجريم انتقاد إسرائيل بوصفه معاداة للسامية”. كشفت في مقال لها على موقع JCFA أن علاقة روما بتل أبيب الآن هي أوثق مما كانت عليه أيام حكم الأحزاب اليسارية والشيوعية في ثمانينات القرن الماضي وبدايات الألفية الثانية.

حجم التنسيق الرهيب بين روما وتل أبيب ازداد أضعافًا مضاعفة بعد 7 أكتوبر. يرجع هذا التنسيق لفترة انتعاش الداعم الأول والرئيس لهذا الزواج المسيار وهو اليمين الوسط المتحالف مع حزب الرابطة المتطرف في الشارع الإيطالي.

في عام 2005، وقّعت حكومة برلسكوني “مذكرة تفاهم للتعاون في القطاعات العسكرية والدفاعية”، وبالتالي وافقت على التعاون مع إسرائيل في مجالات الدفاع والأمن والبحث العلمي للأغراض المدنية والعسكرية على حد سواء. إلى جانب التجارة والتعاون الدفاعي.

هناك عامل آخر يقود تقارب إيطاليا الجديد من إسرائيل يتمحور حول الطاقة. لأنه ابتداءً من عام 2009، تم اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، قبالة سواحل قبرص ولبنان وإسرائيل وغزة ومصر. بعد ذلك، تراكمت مصالح إيطاليا الطاقية والاستراتيجية و أرادت أن تكون لها قدم سبق في هذه المنطقة، مع اتخاذ روما لنفسها موقعًا مهمًا. و إذا ما عرجنا عن أسرار هذه الشراكة

نجد أنه في عام 2012، و خلال حكومة مونتي، وقّعت شركة فينميكانيكا الإيطالية (التي أعيدت تسميتها لاحقًا إلى ليوناردو) عقود دفاعية بقيمة حوالي 850 مليون دولار أمريكي مع إسرائيل، من خلال الشركات التشغيلية ألينيا إيرماكي، تيليسبازيو وسيلكس.

أما شركة ليوناردو هذه، فهي مجموعة صناعية دولية مهمة في فلك الشركات العالمية الرئيسية في مجال الفضاء والدفاع والأمن (AD&S) مع طاقة عمالية تقدر بـ 60,000 موظف في جميع أنحاء العالم. تختص الشركة في الأمن العالمي من خلال قطاع الصناعة ( طائرات الهليكوبتر والإلكترونيات والطيران المسير والإنترنت والأمن والفضاء، وهي شريك في أهم البرامج الدولية مثل يوروفايتر وJSF وNH-90 وFremm وGCAP وEurodrone. كما أنها تتمتع بقدرات إنتاج كبيرة في إيطاليا والمملكة المتحدة وبولندا والولايات المتحدة الأمريكية.

لها حضور في بورصة ميلانو LDO و تستخدم الشركات التابعة لها ومشاريعها المشتركة وأسهمها، والتي تشمل ليوناردو دي آر إس (71.4%)، وMBDA (25%)، وATR (50%)، وهينسولدت (22.8%)، وTeledyne (67%)، وThales Alenia Space (33%)، وAvio (19.3%)،

وأعيد تحديث هذه العقود، و التي تنص كما ورد في الموقع الرسمي لشركة ليوناردو؛ على ما يلي:

  • بالشراكة مع ألينيا إيرماكي، يتم توريد 30 طائرة تدريب متقدمة M-346. تبلغ قيمة الاتفاقية الإجمالية – بما في ذلك الطائرات والمحركات والصيانة و قطع الغيار والخدمات اللوجستية والمحاكاة والتدريب – حوالي مليار دولار أمريكي. ستحل الطائرة الجديدة محل A-4 Skyhawks في الخدمة حاليًا مع القوات الجوية الإسرائيلية. ومن المقرر تسليم الوحدة الأولى في منتصف عام 2014.
  • بواسطة تيليسبازيو، يتم توريد، كمقاول رئيسي، إلى وزارة الدفاع الإيطالية بنظام الأقمار الصناعية العسكرية البصرية عالية الدقة لمراقبة المواقع الحساسة، بنظام يسمى “OPTSAT-3000”، بقيمة 200 مليون دولار أمريكي. ستكون تيليسبازيو مسؤولة عن تزويد النظام بالكامل: من القمر الصناعي إلى الجزء الأرضي، ومن خدمات الإطلاق والتنسيب في المدار إلى إعداد وتنفيذ الأنشطة التشغيلية واللوجستية، فضلًا عن الاختبار في المدار والتكليف.
  • سيعهد ببناء القمر الصناعي، الذي تم تسليمه في عام 2015، إلى شركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية/قسم الفضاء MBT.
  • بواسطة سيلكس إلساغ، يتم توريد أنظمة تحديد الهوية والاتصالات والكمبيوتر للتحكم في الطيران لطائرات التدريب المتقدمة 30 M-346، قيمتها ما يقرب من 41 مليون دولار أمريكي، من خلال شركة Elettra Systems Ltd، من الأنظمة الفرعية القياسية لحلف شمال الأطلسي للاتصالات والروابط التكتيكية وتحديد طائرتين من CAEW (الإنذار المبكر الجوي) للقوات الجوية الإيطالية.

وقال حينها جوزيبي أورسي، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة فينميكانيكا: “تمثل هذه الاتفاقية إنجازًا مهمًا ليس فقط لشركات فينميكانيكا والشركات العاملة ألينيا إيرماكي وتيليسبازيو وسيلكس إلساغ، ولكن للاقتصاد الوطني الإيطالي بأكمله”.
” انجاز الاتفاقية هذه هو نتيجة تعاون مثمر بين الحكومة الإيطالية والحكومة الإسرائيلية وعالم الأعمال والمؤسسات. إنه يشهد على القدرة التنافسية العالية لتكنولوجيا صنع في إيطاليا على المستوى الدولي، حيث تقف فينميكانيكا في المقدمة، وتوضح أن الاستثمارات في التكنولوجيا تمثل، بالنسبة للمجموعة والنظام الصناعي الإيطالي، المسار الصحيح لضمان التنمية المستدامة التي تزيد من القدرات الصناعية، مما يجعلها أكثر قدرة على المنافسة على مستوى العالم”

منذ ذلك الحين، توسعت اتفاقية الشراكة الدفاعية بشكل كبير، مع بيع المروحيات والطائرات المقاتلة للتدريب ومواد أخرى.

في مقابلة مع موقع “il giornale di italia” بتاريخ 12 أكتوبر 2024، قال “نيغري ألبرتو” الكاتب الإيطالي والصحفي المتخصص في الشؤون الشرق أوسطية: «إسرائيل اشترتنا؛ في 2023، الحكومة الإيطالية باعت أمننا السيبراني (Cyber-Security) وسيادتنا للإسرائيلي نتنياهو».

وقعت الحكومة اتفاقية تنسيق لأجهزة ونظم في الأمن السيبراني مع حكومة نتنياهو. استقال على إثر هذا القرار رئيس الأمن السيبراني الإيطالي قبل يومين، لعدم رغبته في التوقيع عليها. و عدم تورطه في جرائم ضد الانسانية التي ترتكبها حكومة نتنياهو.

ومنه فالمسألة أكبر بكثير من جزئية اعتراف الحكومة الإيطالية بفلسطين او استقبال مجموعة جنود إسرائيلين في الفنادق الإيطالية لقضاء إجازة ما بعد القتل و الإجرام.

سيف الدين رحماني – كاتب صحفي وباحث أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews