تقارير و تحقيقات

القهوة الصباحية وتأخير الإفطار… كيف يصنعان المزاج الانفعالي السوداني؟

ممدوح ساتي -مراسلين

في السودان، يبدأ الصباح غالبًا برائحة البنّ المُحمّص وأكواب القهوة التي تُحضَّر على الجمر أو الفحم في البيوت، الأسواق، والمكاتب.
أصبح “فنجان القهوة الأول” جزءًا من الذاكرة الحسية للسودانيين، لا مجرد مشروب منبّه.
لكن خلف هذا الطقس اليومي، تعمل تفاعلات كيميائية دقيقة داخل الجسد تُشكّل، دون وعي، المزاج، وطريقة استقبال الضغوط، وحتى أسلوب الانفعال خلال ساعات النهار الأولى.

وفي مجتمع يتقدم فيه مشروب القهوة على وجبة الإفطار، تتكوّن معادلة صامتة: كافيين في معدة فارغة + تأخير للطعام = مزاج انفعالي سريع الاشتعال.
هذا التقرير يتتبّع أثر تلك المعادلة، مستندًا إلى علم الهضم، تنظيم الهرمونات، ونمط الحياة السوداني.

صباح سوداني يبدأ بالكافيين

منذ عقود، أصبحت القهوة السودانية “طقسًا اجتماعيًا” يلعب دورًا في جلسات السمر أو الونسه، العمل، والتركيز الذهني.
إلا أن دخولها مبكرًا إلى المعدة يجعلها تتفاعل مباشرة مع الجهاز العصبي.

عندما يُشرب الفنجان الأول قبل تناول أي طعام، يبدأ الجسم في إفراز هرمون التوتر cortisol بنسب أعلى من المعتاد—وهو هرمون يُفترض أن يتراجع تدريجيًا بعد الاستيقاظ.
ارتفاعه في هذا التوقيت يعطي دفعة مؤقتة من اليقظة، لكنه يضع الجسم في “حالة تأهّب” مبكرة، ما يجعل ردود الفعل أكثر حدّة تجاه المؤثرات البسيطة.

على مستوى المجتمع، يمكن ملاحظة أثر ذلك في الصباحات السودانية المزدحمة: أصوات مرتفعة في المواصلات، توتر في طوابير الخبز، وضجر داخل المكاتب قبل بدء العمل الفعلي… كلها انعكاسات لنظام غذائي يومي يبدأ بالكافيين بدل الطاقة الغذائية.

تأخير الإفطار… اختلال الساعة الداخلية

يقول علم chrononutrition إن توقيت وجبة الإفطار ليس مجرد خيار مزاجي، بل ركيزة أساسية لتنظيم هرمونات الجسد ومستوى السكر في الدم.

في المجتمع السوداني، كثيرون يؤجّلون الإفطار لثلاث أو أربع ساعات بعد الاستيقاظ، إما بسبب الاندفاع نحو العمل أو بسبب اعتمادهم على القهوة كبديل للطاقة.

هذا التأجيل يخلق نقصًا صامتًا في سكر الدم وينتج عنه صداع خفيف ، زغللة أو ضعف تركيز ، تململ وانفعال سريع.

ارتباك في الجهاز الهضمي

فالمعدة تُفرز الحمض وهي خاوية، بينما يحفز الكافيين العصارة الحمضية أكثر، مما يسبب تهيّجًا معويًا ، شعورًا بالحرقان ، آلامًا في القولون لدى من يعانون منه.

ضغط على الجهاز العصبي

غياب الطاقة الحقيقية يجعل الدماغ يستخدم “وضع الاقتصاد”، أي أداء أقل… وانفعال أعلى.

عندما يلتقي الكافيين بنقص الطاقة

هذه الثنائية (قهوة + تأخير الأكل) تُسجّل تأثيرات واضحة على الشخصية السودانية اليومية، توثقها ملاحظات أطباء نفسيين وأخصائيي تغذية محليين:

  • ارتفاع سرعة الغضب عند مواجهة ضغوط صغيرة.
  • زيادة الحساسية الصوتية، وضيق الصدر تجاه ازدحام الشوارع أو ضغط العمل.
  • تذبذب المزاج بين نشاط لحظي وهبوط مفاجئ.
  • تسارع ضربات القلب لدى من يعانون توترًا مسبقًا.
  • توتر اجتماعي يظهر في النقاشات اليومية أو المشادات العابرة.

وتشير بعض العيادات في الخرطوم إلى أن جزءًا من مراجعي الصباح يشتكون من:
خفقان، رجفة خفيفة، غثيان، صداع، أو إحساس بانقباض الصدر—وتتكرر القصة: “ما فطرت… بس شربت قهوة”.

البعد الاجتماعي والنفسي… كيف تشكّل العادة الشخصية المزاج العام؟

السلوك الغذائي لا ينفصل عن السياق العام. في السودان، تتشابك عوامل متعددة مع هذه العادة:

  1. الإيقاع الاقتصادي المضغوط

العمال، السائقون، وصغار الموظفين يبدأون يومهم مبكرًا، ما يجعل القهوة حلًا سريعًا ورخيصًا للحفاظ على اليقظة.

  1. الثقافة اليومية

القهوة رمز اجتماعي، جزء من الحوار والونس، وأحيانًا بديل عن الوجبات في الصباح والمساء.

  1. الضغوط النفسية

القلق المرتبط بالعمل، الأمن، الوضع الاقتصادي، والتنقل اليومي… كلها تزيد من أثر الكافيين وترفع من حساسية المزاج.

  1. تكرار العادة = ترسيخها في الشخصية

مع الوقت، يتحول نمط الانفعال الصباحي إلى “طابع عام”، وتصبح ردود الفعل الحادة جزءًا من روتين يومي يبدأ بالكافيين وينتهي بإرهاق عصبي.

شخصيات سودانية بين الهدوء والعصبية… من يصنع المفارقة؟

التفاوت في المزاج الصباحي بين السودانيين يرتبط بثلاثة عوامل بيولوجية:

  1. حساسية الكافيين

البعض يستقلب الكافيين بسرعة، فيبقى هادئًا.
والبعض الآخر يستقلبه ببطء، فتظهر عليه:

عصبية زائدة

رجفة

انفعال سريع

  1. نمط النوم

قلة النوم تجعل تأثير القهوة مضاعفًا، وترفع الانفعال مهما كان الشخص هادئ الطباع.

  1. نوع الإفطار عند تناوله

من يفطر “فول + شاي” أو “قراصة + عدس”، مثلا، يحصل على توازن أفضل من شخص يواصل الصوم حتى الظهر.

النتيجة الكبرى… عادة صغيرة تصنع يوماً كاملاً

تؤكد كل الشواهد—العلمية والميدانية والسلوكية—أن المزاج الانفعالي السوداني في ساعات الصباح يتأثر بشدة بنمطين:

  1. بدء اليوم بالقهوة
  2. تأخير الطعام إلى قبيل منتصف النهار أحيانًا

وما يبدو كخيار بسيط لتوفير الوقت أو تنشيط الذهن، يتحول مع التكرار إلى عادة تُعيد تشكيل المزاج العام، وتؤثر على التفاعل الاجتماعي، جودة العمل، والقدرة على تحمل ضغط الحياة اليومية.

ليست المشكلة في القهوة نفسها، بل في توقيتها وتفاعلها مع إيقاع الحياة السودانية.
فنجان الصباح جزء من جماليات اليوم، لكنه حين يُشرب على معدة خاوية، وبين يدي شخص يواجه نهارًا طويلًا بلا طاقة، يتحوّل إلى شرارة صغيرة تحرك المزاج والانفعال… وتلوّن طريقة استقبال العالم منذ اللحظة الأولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews