تقارير و تحقيقات

سوق الخميس بصنعاء… مساحة دعم نسائية في زمن الأزمات

أمل وحيش – خاص مراسلين

تعيش المرأة اليمنية منذ أكثر من عقد ظروفاً استثنائية وقاسية. فبعد أن كانت الغالبية العظمى تجد من يعيلها بينما تتفرغ هي لرعاية البيت والأبناء، أصبحت اليوم تقوم بدور الأم والأب معاً، وتحمل على عاتقها مسؤولية الإعالة أيضاً. فالحرب إما أفقدت إحداهن معيلها وتركَتها تواجه مصيرها مع أطفالها، أو حرمت آخرين من الاستمرار في حياتهم الطبيعية بسبب إصابات أعاقت قدرتهم على الحركة، كما دفعت الضغوط النفسية والمعيشية الكثيرَ من الرجال إلى التنصل من مسؤولياتهم، لتتحمل المرأة وحدها عبءَ الحياة.

ورغم كل ذلك، بقيت المرأة اليمنية نموذجاً للصبر والكفاح. فقد زادتها الحرب والظروف الصعبة قوةً وإصراراً على الاستمرار، لأن الحياة لا تمنح مكاناً للضعفاء.

في قلب العاصمة صنعاء، وتحديداً في ميدان التحرير، تجتمع عشرات النساء كل خميس لعرض منتجاتهن وتعريف الناس بمشاريعهن الصغيرة التي وُلدت من رحم المعاناة. حيث تتنوع المعروضات بين منتجات محلية، ومصنوعات يدوية، ومأكولات منزلية، وحقائب، وإكسسوارات، ومنتجات تجميل طبيعية، وأعمال حرفية، وملابس نسائية ورجالية. كلها صُنعت بحب، لتُعلن أن المرأة قادرة على تحويل الألم إلى قوة، والصعوبات إلى فرص.

ويمثّل سوق الخميس مساحة حرة وآمنة لهؤلاء النساء لعرض منتجاتهن وتنمية مهاراتهن وتوفير مصدر دخل يساعدهن على إعالة أسرهن، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي خلّفتها الحرب، وانقطاع الرواتب لسنوات طويلة.

وفي هذا التقرير نسلّط الضوء على نماذج من هذه المشاريع النسائية التي تواجه التحديات بثبات، وكيف أصبح هذا السوق متنفساً لهن ولأحلامهن الصغيرة التي تكبر يوماً بعد آخر.

مشروع شادن للعطور… رحلة نحو الاكتفاء الذاتي

سارة الكحلاني، إحدى صاحبات المشاريع الصغيرة، وصاحبة مشروع يحمل اسم “شادن” المتخصص في تجهيز خلطات متنوعة من العطور. تؤكد سارة أن المنتج المحلي قادر على منافسة المنتج الأجنبي، خاصة في ظل المقاطعة الاقتصادية للعديد من المنتجات الخارجية، وهو ما يشجّع على بروز المنتجات المحلية بقوة.

تعمل سارة في مجال صناعة العطور منذ ما يقارب ست سنوات، وقد حرصت خلال هذه الفترة على تطوير مهاراتها واكتساب خبرة واسعة في هذا المجال. وتشير إلى أن مشاركتها في سوق الخميس ساعدتها على توسيع شبكة علاقاتها وكسب عملاء جدد.

وتقول لشبكة مراسلين إن خروجها إلى سوق العمل كان نتيجة مباشرة للحرب وتدهور الظروف المعيشية التي أثّرت على معظم الأسر اليمنية. ورغم وجع الحرب، تعتبر سارة أن دخولها سوق العمل خطوة مهمة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وتؤكد أيضاً أن الوعي بالمنتج المحلي يتزايد، خاصة أن السوق ممتلئ بالمنتجات اليدوية ذات الجودة العالية، المصنّعة بتدريب مسبق واعتماد من الجهات المختصة في الدولة. وترى أن هناك إقبالاً كبيراً ووعياً من المستهلكين بأهمية دعم المنتجات المحلية.

حياكة المعاوز… مهنة تتحدى الاندثار

تُعرف صناعة حياكة المعاوز في اليمن بأنها من الصناعات التقليدية المتوارثة جيلاً بعد جيل، فالمعوز أو الفوطة هو اللباس الذي تشتهر به معظم المناطق اليمنية. وصناعته ليست بتلك السهولة التي يظنها البعض، إذ تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والصبر، كما تؤكد نسيم محفوظ التي تأتي ببضاعتها كل خميس برفقة أبنائها الصغار أملاً في أن تجد لها طريقاً للرزق.

بدافع حبها للتراث وحرصها على الحفاظ عليه في ظل غزو المنتجات الصينية المقلدة للسوق اليمنية، تعمل نسيم بالتعاون مع أبنائها على حياكة المعاوز باستخدام آلة خشبية يمر العمل عليها بعدة مراحل حتى تخرج القطعة بالشكل الذي يميّز مشروعها “معوزي”.

استأجرت نسيم في البداية محلاً خاصاً لصناعة المعاوز، وتمكنت من توفير الأدوات اللازمة وبدأت العمل بمساعدة أبنائها، إلا أنها لم تستطع الاستمرار بسبب تراكم الإيجارات ، ما أدى لإغلاقه.

اضطرت نسيم للعمل من المنزل والمشاركة في سوق الخميس لعرض منتجاتها، مؤكدة أن المشروع ساعدها في توفير مصاريف البيت وتكاليف دراسة أبنائها الخمسة. كما كان سبباً في عودتها لإكمال دراستها الجامعية، حيث أصبحت اليوم في سنتها الأخيرة بتخصص الشريعة والقانون. وقد منحها ذلك دافعاً للاستمرار رغم المتاعب، بينما تتشارك مع زوجها—الذي يعمل معلماً في ظل انقطاع الرواتب—مسؤولية تأمين مستلزمات الحياة الأساسية.

ضعف القدرة الشرائية

وترى نسيم أن القدرة الشرائية لم تعد كما كانت، فالناس يعانون من سوء المعيشة وهو ما ينعكس سلباً على أصحاب المشاريع الصغيرة، خصوصاً تلك التي تعتمد على الأعمال اليدوية التي تستهلك جهد وصحة صانعها، ورغم ذلك يراها البعض مرتفعة الثمن دون تقدير لجودتها. وتعزو ذلك للوضع المعيشي الصعب الذي يدفع الكثيرين للبحث عن المنتج الصيني الأرخص سعراً.

ومع ذلك، لم تستسلم نسيم، وما زالت مستمرة في العطاء حتى يصبح المنتج المحلي عالي الجودة في متناول الجميع، على أمل أن تتحسن الأوضاع المعيشية في البلاد وأن يحظى المنتج المحلي بالدعم الذي يستحقه.

حقائب بصمة الملاك… مشروع صنعته الحاجة وصقلته الخبرة

صناعة الحقائب اليدوية محليًا من المجالات التي اقتحمتها النساء خلال سنوات الحرب، بحثًا عن مصدر دخل وتشجيعًا للصناعة الوطنية. ورغم التحديات التي تواجههن، مثل صعوبة توفير المواد الخام وضعف الوصول إلى الأسواق التجارية الكبرى، فإن هذه المنتجات ما تزال تجد طريقها إلى العملاء المهتمين بالجودة والداعمين للمنتج المحلي.

وتُعد صناعة الحقائب المهنة الأقرب إلى قلب أم “ملاك”، التي جرّبت مشاريع عدة قبل أن يستقر بها الحال في مشروع صناعة الحقائب اليدوية بمختلف أحجامها واستخداماتها. وتعتبره المشروع الذي يسندها ويعيلها مع ابنتها الوحيدة؛ فبعد وفاة زوجها قبل أكثر من 12 عامًا، أصبحت الأم والأب والمعيل الوحيد لابنتها ولنفسها، وأضحى هذا المشروع هو مصدر الدخل الذي غطّى كثيرًا من متطلبات حياتهما.

بدأت مشروعها كهواية، ثم طوّرت مهاراتها حتى أصبحت مدرِّبة في مجال صناعة الحقائب اليدوية.
بدأت برأس مال لا يتجاوز 1000 ريال عبر صناعة “المقالم المدرسية”، ومع مرور الوقت توسّع الدخل حتى تمكنت من تأسيس كيانها الصناعي تحت اسم “حقائب بصمة الملاك”، وأصبحت إحدى المشاركات الدائمات في سوق الخميس إلى جانب زميلاتها من مهن مختلفة، داعمةً لفكرة اقتناء المنتج المحلي لجودته العالية وسعره المنافس.

نجحت في بناء قاعدة عملاء عبر مشاركتها في سوق الخميس، إلى جانب توفير نقاط بيع في عدة محلات تجارية. وتطمح لأن يتطوّر هذا السوق ليصبح سوقًا مفتوحًا لا يقتصر على يوم واحد في الأسبوع، بما يعزز فرص النساء العاملات ويمنحهن مساحة أوسع للنمو والازدهار.

إكسسوارات أناقة البتول… تراث ممزوج بروح الحداثة

لمنتجات الإكسسوارات حضور ثابت في سوق الخميس، فهي من السلع التي تجذب شريحة واسعة من النساء، خاصة محبّات القطع الممزوجة بروح التراث. وهذا ما تعمل عليه سعاد الحسام في مشروعها “أناقة البتول للؤلؤ والعقيق”، حيث تنتج مختلف أنواع الإكسسوارات اليدوية بأسلوب حرفي وطابع حديث، مع الحفاظ على الهوية التراثية وتلبية أذواق مختلف الفئات العمرية، مع حرصها على مواكبة الموضة.

وتوضح سعاد، التي بدأت عملها قبل ست سنوات، أن الإقبال على الشراء لم يعد كما كان بسبب الظروف الاقتصادية. لكنها تؤكد أنها تسعى لتقديم منتجات تناسب جميع الفئات وبأسعار مرنة، في محاولة للتعاون مع المستهلك قدر المستطاع.

وتتمنى سعاد استمرار سوق الخميس الذي تدعمه مؤسسة بنيان للتنمية، لما يقدمه من دعم للأسر المنتجة وما يوفره من مساحة للتعريف بمنتجاتهن. كما تحلم بأن تمتلك محلها الخاص وأن يتطور مشروعها ليصبح منافسًا قويًا في سوق الإكسسوارات.

لافين… منتجات عناية بالبشرة بصناعة صيدلانية محلية

من بين المشاريع اللافتة في سوق الخميس يبرز مشروع “لافين” المتخصص في منتجات العناية بالبشرة. يدير المشروع فريق صيدلاني مكوّن من ست شابات صديقات، جمعتهن الخبرة في مجال الأدوية والرغبة في تحويل معرفتهن العلمية إلى منتجات تجميلية عالية الجودة.

عملت الشابات على تصنيع مستحضرات للعناية بالبشرة اعتمادًا على خبرتهن المهنية، وبفكر تجاري طموح رغم أنهن ما زلن في مقتبل العمر. وتسعى صاحبات مشروع لافين إلى أن تصبح منتجاتهن ضمن العلامات التجارية المنافسة في سوق مستحضرات التجميل خلال السنوات القادمة.

نسمة… عطور وكريمات وإكسسوارات بهوية يمنية خالصة

توضح نسمة أنها تعمل في صناعة العطور المركّزة بطريقة احترافية، وتستخدم في تركيباتها أساليب متعددة تركّز فيها على جودة المنتج أولاً. كما تقوم بصناعة تركيبات من الكريمات اعتمادًا على خبرة تتجاوز ثماني سنوات، بالإضافة إلى تنفيذ إكسسوارات حسب طلب العملاء.

وتشير إلى أنها تُعيل أسرتها، وأن العمل اليدوي يحتاج إلى اهتمام أكبر ودعم فعلي من الجهات الرسمية، لكون الأسر المنتجة تمثل رافدًا اقتصاديًا مهمًا ينبغي الاستثمار فيه.

وأضافت أنه لو حظي المنتج المحلي بالدعم الكافي، لكانت كثير من المنتجات اليمنية في طريقها إلى التصدير، داعيةً الجميع إلى تجربة المنتج المحلي قبل الحكم عليه، ومؤكدةً أهمية نشر الوعي بأهمية الصناعة الوطنية. كما شددت على أن منتجات الأسر المنتجة تخضع لرقابة الجهات المختصة وهيئة حماية المستهلك، ما يعزز موثوقيتها وجودتها. واختتمت بالمطالبة بضرورة مراعاة احتياجات الأسر المنتجة وتمكينها من المشاركة في المعارض والفعاليات الكبرى لتعزيز حضورها وتنمية أعمالها.

الرميساء… زيت شعر بخبرة تتجاوز ربع قرن

منذ أكثر من 25 عامًا التحقت أمة الملك الحضراني ببرنامج تدريبي متخصص في صناعة زيوت الشعر، أشرف عليه خبراء هنود في هذا المجال. كانت تلك نقطة الانطلاق، فمنذ ذلك الحين وهي تصنع الزيوت بخبرة تراكمت عامًا بعد عام، تحكي عنها اليوم بشغف وحب كبيرين. بدأت بإنتاج الزيوت على نطاق عائلي وللأصدقاء، ولم تكن بحاجة إلى مشروع يدر دخلًا، غير أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها معظم الأسر اليمنية دفعتها لإطلاق مشروعها إلى العلن، ليستفيد منه من يعاني مشكلات الشعر مثل القشرة، التقصف، والجفاف.

تعتمد أمة الملك في صناعة الزيوت على خلط أعشاب مختارة بنسب دقيقة، بحيث يأخذ كل مكوّن حقه ليمنح المنتج قيمة علاجية وغذائية للشعر، بعيدًا عن المواد الكيميائية المنتشرة في الأسواق.

وتوضح أن الإقبال على منتجها، الذي طرحته قبل نحو عامين، أصبح كبيرًا يفوق قدرتها الإنتاجية الحالية، إذ ما تزال تعمل بطريقة يدوية تقليدية في فصل الزيوت عن الأعشاب. ورغم حصولها على ترخيص من هيئة المواصفات والمقاييس وامتلاكها معملًا منزليًا صغيرًا، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى معدات حديثة تساعدها على رفع الإنتاج لتلبية الطلب المتزايد، خصوصًا مع وجود نقاط توزيع متعددة في عدد من صيدليات العاصمة صنعاء.

وبأسلوب بسيط ومحبب، تشرح أمة الملك مراحل استخلاص الزيت من الأعشاب، رغم الجهد الذي تتطلبه العملية، إلا أنها تجد فيها متعة حقيقية. فآراء العملاء الإيجابية وثناؤهم على جودة الزيت—الذي يحمل اسم الرميساء—تشكل بالنسبة لها أكبر دافع للاستمرار، إذ أصبحت التجارب الناجحة تنتقل من شخص لآخر حتى وجد منتجها صدى واسعًا في السوق.

المخللات… مشروع منزلي يعيل أسرة ويصنع استقراراً

تعمل أم محمد في تصنيع المخللات، ذلك المنتج الذي لا يكاد يخلو منه بيت يمني. ومنذ ثلاث سنوات وهي تمارس هذا العمل من منزلها، فيما شكّل سوق الخميس فرصة مهمة لعرض منتجاتها أمام الجمهور. كما تبيع للأصدقاء والمقرّبين، بمساندة ابنتها الكبرى التي تشاركها في إعداد الأنواع المختلفة من المخللات.

وتشير إلى أن هذا المشروع كان عونًا كبيرًا لها في تعليم أبنائها الأربعة، خصوصًا مع الظروف التي لم تعد تسمح لزوجها بالاعتماد على عمله وحده لإعالة الأسرة؛ ليغدو هذا المشروع رافدًا اقتصاديًا فعّالًا أسهم في تحسين مستوى الأسرة المعيشي.

تربية الأغنام… بساطة ممتزجة بالطبيعة ومصدر رزق كريم

تُعدّ تربية الأغنام مصدر دخل حيوي لعدد كبير من الأسر اليمنية، سواء في الريف أو حتى في بعض الأحياء الحضرية. كثير من العائلات تستغل جزءاً من المنزل “الحوش” لتربية عدد محدود من الأغنام وتوليد دخل مستمر يعينها على المعيشة.

ومن بين هذه النماذج “أم محمد”، أم لثمانية أبناء، حولت تربية الأغنام إلى مشروع منزلي صغير. تستخرج من حليبها السمن البلدي واللبن الذي تؤكد أنه أكثر صحة وجودة مقارنة بالمنتجات التجارية المتوفرة في الأسواق. وبفضل ندرة هذه المنتجات الطبيعية في المدن، يحظى ما تُقدّمه أم محمد بطلب مرتفع في السوق المحلية.

وتقول أم محمد إن هذا المشروع رغم تواضعه، إلى جانب صناعة الخبز البلدي واللحوح وهو نوع من أنواع الخبز- يسد إلى جزءاً مهماً من احتياجات أسرتها-  خصوصاً بعد انقطاع راتب زوجها الجندي منذ سنوات.

 ورغم التحديات الاقتصادية، ترى أن مشروعها البسيط “يستر الحال” ويمنح أسرتها قدرة على الصمود.

ما يجتمع في سوق الخميس ليس مجرد منتجات تُباع وتشترى، بل قصص نساء حوّلن التحديات إلى فرص، وصنعن من ضيق العيش أبواباً جديدة للحياة. وسط واقع اقتصادي متردي، وجروح خلّفتها الحرب في كل بيت.

مشاريع صغيرة وُلدت من الحاجة، لكنّها نمت بالشغف، واجتمعت في مساحة واحدة لتقول إن العمل ليس مجرد وسيلة للبقاء، بل فعل مقاومة وكرامة.
هذه النماذج التي وقفنا عندها ليست إلا جزءًا من مشهد أكبر لنساء يصنعن اقتصاداً صغيراً لكنه حقيقي، ويثبتن يوماً بعد آخر أن الأمل يمكن أن ينهض حتى من أكثر البيئات قسوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews