تقارير و تحقيقات

مظاهرات في مدن سودانية لإحياء ذكرى ثورة ديسمبر رغم الحرب

ممدوح ساتي -مراسلين

شهدت عدة مدن سودانية،أمس، خروج مظاهرات متفرقة لإحياء الذكرى السنوية لثورة 19 ديسمبر، في مناطق تقع تحت سيطرة الجيش السوداني، وسط إجراءات أمنية مشددة ومحاولات لمنع التجمعات.

خرج متظاهرون في الخرطوم وأم درمان وبورتسودان ومدن أخرى رافعين شعارات تطالب بإنهاء الحرب، ورفض حكم المليشيات، واستعادة مسار الثورة نحو الحكم المدني، قبل أن تتدخل الشرطة لتفريق بعض المواكب باستخدام الغاز المسيل للدموع.

من الشارع إلى التاريخ: لماذا خرج ديسمبر في هذا التوقيت؟

لم يكن خروج الأمس حدثًا معزولًا عن سياقه، ولا مجرّد إحياء رمزي لذكرى ثورة.
لقد جاء في لحظة تحاول فيها قوى السلاح، بأشكال مختلفة، إعادة تعريف الدولة السودانية بقوة الأمر الواقع.

الثوار الذين خرجوا أعادوا التذكير بجوهر ديسمبر:

· لا دولة بلا شرعية شعبية
· لا جيش فوق الدولة
· ولا مليشيا تحكم دوله

لكن خلف الشعارات، كانت هناك رسالة أعمق، تتعلق بجذور الأزمة نفسها.

كيف صُنعت المليشيا؟ من قرار سياسي إلى خطر وجودي على الدولة

قوات الدعم السريع لم تنشأ من فراغ، ولم تكن “خطأً عرضيًا” في مسار الدولة، بل نتاجًا مباشرًا لسياسات نظام المؤتمر الوطني المنحل.

البداية: تأسيس خارج الجيش

في سنوات حكم عمر البشير، جرى إنشاء تشكيلات مسلحة موازية للقوات المسلحة، تحت مسميات مختلفة، ثم جرى تقنينها لاحقًا تحت اسم قوات الدعم السريع.

لم يكن الهدف حماية الدولة، بل حماية النظام عبر قوة لا تخضع للعقيدة العسكرية الوطنية، ولا لسلسلة القيادة المعروفة داخل الجيش.

التمكين والتسليح: دولة داخل الدولة

مع مرور الوقت، زاد عدد أفراد الدعم السريع بشكل غير مسبوق، حصلت القوة على تسليح نوعي، وعربات، وتمويل مباشر، وجرى ذلك على حساب الجيش السوداني، الذي تُرك يعاني من الإهمال، وتآكل القدرات، وتسييس القيادة.

في تلك المرحلة، تحوّلت الدعم السريع من أداة أمنية إلى قوة سياسية واقتصادية مستقلة.

ما بعد البشير: من شريك مؤقت إلى طامح للسلطة

بعد سقوط نظام البشير، لم تُفكك المليشيا، ولم تُدمج وفق أسس مهنية، بل استُخدمت مرة أخرى كورقة توازن مؤقت.
غير أن الطموح تضخم، والسلاح تضاعف، والقرار أصبح مستقلًا.

ومع اقتراب لحظة الحسم، لم تكتفِ قوات الدعم السريع بالقوة العسكرية، بل:

· اشترت ذمم سياسيين
· نسجت تحالفات انتهازية
· موّلت منصات إعلامية وخطابات زائفة

المفارقة الصادمة أن بين هؤلاء: عناصر من المؤتمر الوطني المنحل، وشخصيات وأحزاب كانت ترفع شعارات الثورة، وتغنّت بالمدنية، ثم خانتها في أول اختبار حقيقي.

لحظة الحقيقة: محاولة الاستيلاء على الدولة بالقوة

حين اندلعت الحرب، لم تكن صدامًا عرضيًا، بل محاولة مكتملة الأركان للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح.
محاولة لفرض واقع جديد بدعم خارجي سياسي وعسكري..

الرسالة التي خرجت من ديسمبر: الجيش جيشنا… والدولة دولتنا

في حراك الأمس، لم يرفع المتظاهرون شعار العداء للجيش، لكنهم رفضوا عسكرة السياسة واختزال الوطن في بندقية.

التمييز كان واضحًا:

· الجيش: مؤسسة وطنية مدعومه من الشعب لتقوم بواجبها في حماية الدوله الشعب والأرض.
· المليشيا: مشروع لا يمكن أن يتحوّل إلى دولة

ولهذا ظل الشعار حاضرًا، صريحًا أو ضمنيًا: “المليشيا لا تحكم دولة… والجنجويد يتحلّ “.

ديسمبر ليست ذكرى… بل محاكمة مفتوحة للتاريخ

ما جرى أمس يؤكد أن الثورة لم تنتهِ، بل دخلت مرحلة:

· أكثر وعيًا
· أقل صخبًا
· وأكثر خطورة على مشاريع الزيف

إنها ثورة تعرف الآن: من صنع الأزمة، ومن تواطأ، ومن خان، ومن صمد.

رغم محاولات تفريق بعض المواكب باستخدام الغاز المسيل للدموع، فإن ما جرى في مدن سيطرة الجيش حمل دلالة أعمق من مجرد إجراء أمني.

اللافت أن من نزل إلى الشارع لم يكن الجيش ولا الدبابات، بل الشرطة بوصفها جهاز دولة مختص بإدارة الشغب وتنظيم الفضاء العام.

هذا المشهد، في بساطته، أعاد رسم خطٍ فاصل بين الدوله والمؤسسات وفوضى المليشيا:

· الجيش لم يُستدعَ لقمع رأي سياسي
· السلاح الثقيل لم يُستخدم في مواجهة مواطنين عُزّل
· الشرطة أدّت دورها المهني في محاولة التفريق دون تحويل الشارع إلى ساحة حرب

رسالة وصلت… وأمل بقي

وصلت الرسالة، وانتهت المواكب، وعاد الناس إلى بيوتهم، لا مهزومين ولا مكسورين، بل محمّلين بأمل بسيط وعميق:

أن تكون هناك دولة تُدار بالمؤسسات، لا بالقوة، وأجهزة دولة تحترم سيادة الشعب على أرضه، وتصون حرية الرأي، وتقف – لا بالهتاف بل بالفعل – مع مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة، كأساسٍ للدولة السودانية العادلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews