سياحة و سفر

السياحة حين تفقد معناها الإنساني: سوء معاملة الحيوانات في منطقة الأهرامات

ليست الأهرامات مجرد معلم أثري أو مقصد سياحي عالمي، بل رمز لحضارة قامت على التنظيم والمعرفة واحترام النظام. غير أن التحقيقات الدولية المتكررة حول أوضاع الخيول والجِمال المستخدمة في السياحة بمنطقة الجيزة تفرض سؤالًا أعمق من مجرد “سوء معاملة حيوانات”: أي نموذج سياحي يجري ترسيخه، وأي كلفة أخلاقية يدفعها هذا النموذج؟

التحقيق الأخير الذي نشرته منظمة PETA Asia يندرج ضمن سلسلة توثيقات بدأت منذ عام 2019، كشفت نمطًا متكررًا من استنزاف الحيوانات حتى الانهيار الجسدي، واستخدامها في درجات حرارة مرتفعة دون رعاية كافية، ثم التخلي عنها خارج أسوار المواقع الأثرية (PETA Asia, 2019–2024). اللافت في هذه التقارير ليس حجم الانتهاكات فحسب، بل استمراريتها رغم التعهدات الرسمية المتكررة بالإصلاح.

المشكلة ليست في السياحة… بل في نموذج إدارتها

القراءة التحليلية لهذه القضية تُظهر أن الخلل لا يكمن في النشاط السياحي بحد ذاته، بل في نموذج إدارته. السماح باستخدام الحيوانات كوسيلة نقل وترفيه داخل مواقع مكتظة بالزوار، وتحت ضغط اقتصادي على العاملين المحليين، يخلق بيئة مثالية للاستغلال المنهجي، وهو ما وثّقته تقارير إعلامية دولية وصور ميدانية لوكالات مثل AP وAFP (AP, 2023؛ AFP, 2024).

ورغم إعلان وزارة السياحة والآثار المصرية عن خطط تنظيمية تشمل توفير مياه، مظلات، وإشراف بيطري، فإن التحقيقات اللاحقة أظهرت أن هذه الإجراءات بقيت جزئية وغير مُلزمة فعليًا، مع غياب آليات رقابة مستدامة (وزارة السياحة والآثار المصرية، بيانات 2019–2023؛ PETA International).

إدارة مزدوجة للأزمة: صورة داخل الأسوار… ومعاناة خارجها

تشير تقارير PETA International إلى ما يمكن وصفه بـ”الإدارة المزدوجة” للموقع:
داخل الأسوار تُقدَّم صورة منظمة للسياحة، بينما تُنقل الحيوانات المنهكة إلى خارج نطاق الرؤية العامة، حيث تُترك دون علاج أو تُباع للذبح بعد انتهاء “صلاحيتها السياحية” (PETA International, 2022).

هذا النمط لا يمثل خرقًا لمعايير الرفق بالحيوان فحسب، بل يتناقض مع مبادئ إدارة مواقع التراث العالمي كما حددتها اليونسكو، والتي تشدد على التكامل بين الحماية الثقافية والبيئية والأخلاقية (UNESCO, World Heritage Guidelines).

المتحف المصري الكبير: فرصة إصلاح أم مضاعفة الضغط؟

افتتاح المتحف المصري الكبير يُفترض أن يشكل نقطة تحول في تحديث السياحة المصرية. غير أن منظمات حقوقية حذّرت من أن التدفق المتوقع للملايين قد يعمّق الأزمة، ما لم يُرافق بقرار واضح ينهي استخدام الحيوانات نهائيًا في المنطقة (PETA Asia, 2024).

وتبرز هنا مفارقة مركزية:
كيف يمكن لمشروع ثقافي بتكلفة مليار دولار أن يتعايش مع ممارسات تناقض معايير السياحة المستدامة المعتمدة دوليًا؟
وهو سؤال ينسجم مع تحذيرات منظمة السياحة العالمية UNWTO من أن السياحة غير الأخلاقية تقوض سمعة الدول على المدى المتوسط والبعيد (UNWTO, Sustainable Tourism Reports).

المسؤولية المشتركة: الدولة، السوق، والسائح

لا تقتصر المسؤولية على الحكومة وحدها. فشركات السياحة والمنصات الرقمية تشكل عنصرًا محوريًا في إعادة إنتاج هذا النموذج. وقد شكّل قرار Airbnb وقف الترويج للأنشطة السياحية القائمة على استغلال الحيوانات في الجيزة سابقة مهمة، لكنها تبقى محدودة الأثر ما لم تتحول إلى سياسة وطنية شاملة (Airbnb Policy Update, 2023).

كما أن الطلب السياحي نفسه يلعب دورًا حاسمًا. فطالما استمر الإقبال على ركوب الجِمال والتقاط الصور “الفولكلورية”، سيبقى العرض قائمًا، مهما بلغ حجم الانتقادات الحقوقية (The Guardian; BBC News).

ما بعد التوثيق: الحاجة إلى قرار سياسي حاسم

لم تعد المشكلة اليوم نقصًا في المعلومات أو غياب الأدلة. فالتقارير المصوّرة، والشهادات، والتحقيقات الميدانية متراكمة منذ أكثر من خمس سنوات (PETA Asia; AP; AFP). ما ينقص هو القرار السياسي الحاسم:
إخلاء المواقع الأثرية من جميع الحيوانات المستخدمة سياحيًا، نقلها إلى ملاجئ حقيقية، وتعويض العاملين ببدائل اقتصادية مستدامة، بما ينسجم مع معايير السياحة الأخلاقية العالمية.

السياحة التي تقوم على معاناة صامتة لا يمكن تسويقها بوصفها “حضارية”. وإذا كانت الأهرامات قد صمدت آلاف السنين شاهدة على عظمة الإنسان، فإن طريقة إدارتنا لها اليوم ستبقى شاهدًا أيضًا… لكن على اختبار أخلاقي لم يُحسم بعد.

bakr khallaf

صحفي، مترجم وباحث في الإعلام والعلاقات الدولية، محاضر بجامعة إسطنبول التركية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews