مقالات

رواندا: كيف يصنع مجتمعٌ خرج من الإبادة دولةً لا تُجامل في القانون؟

"الدرس الذي ينبغي على الطلاب الاجانب إدراكه: في رواندا لا يُختبر القانون… بل يُحترم".

بقلم : نشوة أحمد الطيب

لم أكتب هذا الكلمات من موقع المراقب البعيد، ولا استنادًا إلى خبرٍ عابر أو تحليلٍ مكتبيٍّ بارد بل أكتبه من تجربة معيشة في رواندا منذ العام ٢٠٢١، ومن احتكاك يومي بشعبها البسيط، في الأسواق، وفي الشارع، وفي تفاصيل الحياة الصغيرة التي لا تظهر في العناوين، غير أن واقعة ترحيل عدد من الطلاب السودانيين، وما صاحبها من تصاعد مظاهر العنف الجسدي بين بعض الطلاب الأجانب، كانت اللحظة التي فرضت إعادة طرح السؤال بصوتٍ عالٍ: لماذا لا تتساهل رواندا مع العنف؟ ولماذا يبدو قانونها صارمًا إلى هذا الحد؟

من داخل هذه التجربة، يتضح أن ما قد يُقرأ من الخارج كتشدد قانوني، يُفهم في الداخل بوصفه حماية لسلام هشّ صنعه المجتمع بوعي مؤلم، فالدولة التي خرجت من واحدة من أبشع الابادات الجماعية في التاريخ الحديث لا تنظر إلى العنف كسلوك فردي معزول، ولا تتعامل مع الفوضى كخطأ شبابي قابل للاحتواء، بل تقرأ كل انزلاق سلوكي في ضوء ذاكرة دفعت ثمن التهاون دمًا.

لا أكتب هذه الكلمات دفاعًا عن قرار، ولا إدانة لأشخاص، بل هي محاولة لشرح المنطق الاجتماعي الذي يحكم رواندا اليوم، من خلال معايشة ناسها البسطاء، وفهم علاقتهم بالنظام، وخوفهم العميق من العودة إلى ما لا يريدون تكراره، فمن واقعة الترحيل، إلى الشارع، إلى السوق، إلى المزرعة، تتضح صورة مجتمع يعرف أن الخطأ الصغير، إذا تُرك، قد يقود إلى مأساة كبرى.

رواندا… المجتمع الذي تعلّم من الجرح..

ليست رواندا اليوم مجرد دولة أفريقية تجاوزت حربًا أهلية أو نزاعًا عابرًا، بل هي مجتمع أعاد تعريف نفسه بالكامل بعد واحدة من أبشع الابادات الجماعية في التاريخ الحديث. إبادة عام 1994 لم تقتل البشر فحسب، بل كادت تقضي على فكرة المجتمع ذاتها، غير أن ما حدث بعد ذلك كان استثناءً لافتًا: شعب قرر أن ينجو، ودولة قررت أن تمنع التكرار مهما كان الثمن.
لفهم رواندا، لا يكفي النظر إلى أرقام النمو أو شوارع كيغالي النظيفة، بل لا بد من الغوص في التركيبة الاجتماعية، وسلوك الناس، وفلسفة الدولة التي تشكّلت تحت ضغط الذاكرة والخوف من العودة إلى الهاوية.

قبل الإبادة: مجتمع هشّ تحت خطاب الكراهية..

قبل عام 1994، كان المجتمع الرواندي يعيش انقسامًا عرقيًا حادًا بين الهوتو والتوتسي، غذّته السياسة الاستعمارية ثم المحلية، حتى تحوّل الاختلاف الاجتماعي إلى أداة قتل جماعي. لم تكن الإبادة انفجارًا مفاجئًا، بل نتيجة تراكم طويل لخطاب الكراهية، وتطبيع العنف، وغياب الردع.
حين انتهت الإبادة، لم يكن التحدي هو إعادة بناء الدولة فحسب، بل إعادة بناء الإنسان الرواندي نفسه.

بعد الإبادة: مصالحة بلا شعارات..

اختارت رواندا مسارًا صعبًا، لا انتقام شامل، ولا نسيان وأُنشئت محاكم “غاكاكا” المجتمعية، حيث واجه الجناة ضحاياهم، واعترف كثيرون بجرائمهم علنًا.، لم تُبنَ المصالحة على العفو المجاني، بل على الحقيقة والمساءلة وأُلغيت أي إشارة قانونية أو رسمية للانتماء العرقي، وأصبحت الهوية الوحيدة المعترف بها هي: رواندي. بهذا، تحوّل المجتمع من ذاكرة دموية إلى ذاكرة حذِرة.

لماذا رواندا متشددة في قوانينها؟

القانون في رواندا ليس أداة حكم فقط، بل آلية بقاء، الدولة تنظر إلى أي فوضى، مهما بدت صغيرة، بوصفها شرارة محتملة لكارثة أكبر. لذلك: يُجرَّم خطاب الكراهية دون تساهل ويُطبَّق القانون بسرعة وحسم ولا تُقدَّم رواندا في ذلك أي استثناءات للأجانب أو الدبلوماسيين أو الطلاب.
الرسالة واضحة: السلام هشّ… ومن يعبث به لا مكان له هنا، الحياة اليومية: نظام هادئ بلا استعراض.

الأسواق… انضباط الفقراء..

في أسواق رواندا الشعبية، لا صخب ولا فوضى الباعة يلتزمون بمواقعهم، الممرات نظيفة، المساومة هادئة، بلا صراخ أو احتكاك، الفقر موجود، لكن الفوضى غائبة والنظافة ليست ترفًا، بل ثقافة عامة، حتى رمي ورقة في الشارع قد يعرّض صاحبها للمساءلة.

المزارع… الأرض كعلاج نفسي..

الريف الرواندي لوحة خضراء من المزارع الصغيرة والزراعة لديهم نشاط أسري وجماعي، القهوة والشاي والموز ليست محاصيل فقط، بل رموز تعافٍ، التعاونيات الزراعية أعادت بناء الثقة بين جيران فرّقتهم الإبادة، العمل في الأرض كان بالنسبة لكثيرين، طريقًا صامتًا للمصالحة.

الشارع… ذاكرة تمشي على قدمين..

في الشارع الرواندي الناس يتحدثون بهدوء ويحترمون الطوابير يلتزمون بالقانون حتى دون رقابة، ليس خوفًا أعمى، بل وعي جمعي بأن الانفلات يبدأ بتفصيل صغير.

يوم العمل الوطني: “أوموغندا” المجتمع قبل الفرد..

في رواندا مرة كل شهر، يشارك المواطنون والمقيمون في يوم “أوموغندا” للعمل الجماعي: تنظيف، بناء، صيانة، المشاركة إلزامية ليس لأن الدولة تحب الإجبار، بل لأنها تريد ترميم فكرة الجماعة التي تحطمت ذات يوم.

كزائر أو مقيم: ماذا يجب أن تعرف؟..

رواندا ترحب بالجميع، لكن بشروط واضحة، احترام القوانين دون نقاش، الالتزام بالنظام العام، تجنب أي سلوك عنيف أو استفزازي وإدراك أن الجهل بالقانون ليس عذرا والعقوبة قد تكون فورية، والقرار قد يصل إلى الترحيل المباشر دون وساطات.

مثال واقعي: ترحيل طلاب سودانيين..

قبل أيام، نشرنا عبر شبكة مراسلين خبرًا عن ترحيل عدد من الطلاب السودانيين من رواندا بعد تورطهم في مخالفات تتعلق بالإخلال بالنظام العام.
القرار لم يُقدَّم باعتباره عقوبة تعليمية، بل إجراء سيادي لحماية النظام الاجتماعي.
السفير السوداني في كيغالي وجّه رسالة واضحة للجالية، احترام قوانين رواندا ليس خيارًا، ومن يتجاوزها يتحمل العواقب كاملة، القضية لم تكن استهدافًا، بل تطبيقًا حرفيًا للقانون.

وختام حديثي عن رواندا إنها دولة تخاف من الفوضى أكثر من أي شيء، رواندا اليوم ليست دولة قاسية، بل دولة مصدومة لم تنسَ، مجتمعها يعيش بوعي من يعرف أن الكارثة لا تبدأ بالرصاص، بل بالكلمة، وبالتساهل، وبالسكوت عن الخطأ الصغير.
من يدخل رواندا عليه أن يفهم هذه الحقيقة البسيطة
“هذا السلام دُفع ثمنه دمًا… ومن لا يحترمه، لا مكان له في دولتهم”.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews