مقالات

اتفاق غزّة سقوط الضامن الدولي وانكشاف اللعبة الجيوسياسية

بقلم : هشام العباسي – صحفي مغربي

من يتابع مسار اتفاق غزّة منذ لحظة الإعلان عنه، مروراً بمحطات تعثره وتناقضات تطبيقه، لا يحتاج إلى قدر كبير من الجهد ليكتشف أن الأزمة لم تكن في بنود الاتفاق بقدر ما كانت في هندسة السياق الذي أحاط به. فقد بُني الاتفاق على فرضية يبدو اليوم أنها كانت وهماً: وجود “ضامن دولي” قادر ومُريد في آن، يتدخل في اللحظة المناسبة لحماية الوثيقة من التآكل الميداني والانحراف السياسي.
لكن ما حدث هو العكس تماماً: الضامن انسحب، والاحتلال تمدد، والوسطاء وجدوا أنفسهم أمام مشهد بلا بوصلة.

دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في أكتوبر 2025 محمولاً على وعود دولية، لكن الوعود لم تتحول إلى التزامات. فالإدارة الأميركية، التي رُوّج لدورها المركزي في صياغة الاتفاق، اتخذت لاحقاً مسافة مريبة من تفاصيل التطبيق.
والأخطر من ذلك أنها تعاملت مع الاتفاق بوصفه “إنجازاً دبلوماسياً منجزاً” لا مساراً يجب مراقبته، وتركت التنفيذ للجيش الإسرائيلي وحده، كما لو أن سلطة الاحتلال يمكن أن تكون حكماً محايداً أو طرفاً ضامناً لنجاح المبادرة.

هذا الانسحاب الأميركي التدريجي من المشهد ليس فقط انكفاءً سياسياً، بل تخلٍّ متعمد عن مسؤولية أخلاقية وقانونية، ما جعل الاتفاق هشّاً، قابلاً للاختراق، ومفتوحاً أمام كل أشكال العبث الميداني.

في ظل هذا الغياب الأميركي المريب، تحركت إسرائيل بسرعة لملء الفراغ.
لم تكتفِ بتأخير الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، بل أعادت صياغة الواقع الميداني وفق رؤيتها الخاصة:

استمرار إغلاق المعابر ومنع المساعدات الإنسانية.

اعتبار المناطق العازلة مناطق عسكرية لا يطالها الاتفاق.

تضييق الخناق على المدنيين في الجنوب بما يشبه سياسة “إعادة هندسة السكان”.

هذه الانتهاكات لم تكن مجرد خروقات للاتفاق، بل محاولة مدروسة لإعادة ترتيب المشهد السكاني والجغرافي في القطاع، بما يتجاوز حدود الاتفاق ذاته ويقترب من إعادة تعريف مستقبل غزّة بالكامل.

في القاهرة، ظهر جلياً حجم الاختلال في ميزان القوى.
فاجتماع قطر وتركيا ومصر، رغم أهميته، بدا كتحرك في فضاء سياسي خالٍ من الدعم الدولي الحقيقي.
فالوسطاء يدركون أن فعالية أي جهود جديدة مرتبطة بثلاثة عناصر غائبة:

ضغط أميركي جادّ لفرض الالتزام على إسرائيل

موقف دولي موحد تجاه الانتهاكات المتكررة

إعادة بناء آلية رقابة ميدانية ذات مصداقية

ومع غياب هذه العناصر، أصبحت الوساطة عملاً تقنياً يفتقد أدوات القوة، أشبه بمحاولة لترميم سقف ينهار دون أن يُسمح للوسطاء بدخول الغرفة.

السؤال الحقيقي اليوم ليس لماذا فشل الضامن الدولي في حماية الاتفاق، بل:
هل كان الضامن ينوي أساساً لعب هذا الدور؟

إن سلوك الإدارة الأميركية منذ توقيع الاتفاق وحتى اللحظة الحالية يؤكد أن واشنطن تعاملت مع القضية كملف دبلوماسي قابل للاستثمار السياسي، لا كالتزام دولي قابل للمتابعة.

عندما تلعب الدولة الراعية دور “الشاهد الصامت”، يصبح الاتفاق مجرد ورقة بلا روح؛ يتحول من وثيقة سياسية إلى مجرد صك رمزي يصلح للاستهلاك الإعلامي، لكنه لا يغير شيئاً في الميدان.

ليس خافياً أن واشنطن تحاول استثمار اتفاق غزّة للدفع نحو تسويات في ملفات أخرى.
لكن تحويل وقف إطلاق النار في غزّة إلى “عملة تفاوضية” في صراعات دولية أخرى يشكل انحرافاً أخلاقياً خطيراً، ويكشف ضعف الإرادة الأميركية في تثبيت الاتفاق بحد ذاته.

فغزّة تُستخدم اليوم كمنصة لتسجيل نقاط سياسية، لا كمنطقة يجب حمايتها من مزيد من الدمار.

أمام هذا المشهد، يصبح من الضروري التفكير خارج إطار الاتفاق الحالي، عبر:

العودة إلى مجلس الأمن لسنّ قرار جديد يحدد بوضوح دور قوة دولية فعّالة تتبع الأمم المتحدة.

نزع احتكار إسرائيل لإدارة الميدان.

استعادة فكرة الضامن إلى معناها الجوهري: الرقابة والردع، لا التوقيع والغَياب.

فبدون قوة دولية ذات صلاحيات تنفيذية، سيظل الاتفاق مجرد هيكل فارغ.

ما يحصل اليوم في غزّة لا يكشف فقط فشل الاتفاق، بل يكشف فشل النموذج الدولي الذي يفترض أن يحمي الاتفاق.
ولعل أخطر ما نواجهه اليوم هو الانهيار الهادئ لفكرة “الضامن الدولي”، وتحولها إلى واجهة سياسية تُستخدم عند الحاجة، وتُسحب عند أول اختبار.

لقد آن الأوان لقراءة جديدة، أكثر واقعية وأقل سذاجة، للمشهد.
فالضامن الذي ترك الاتفاق ينهار أمام عينيه، دون كلمة أو موقف، لم يفشل في مهمته… بل تخلّى عنها.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews