مقالات

تونس: حين تلتقي الأيديولوجيات في الشارع دفاعًا عن الحرية

بقلم : حنان الحيدري

في مشهد نادر منذ سنوات، خرجت في تونس مسيرة معارضة جامعة، التقت فيها أطياف سياسية وايديولوجية طالما فرّقتها الخلافات بقدر ما فرّقتها القراءات المتباينة للدولة والمجتمع. إسلاميون ويساريون، ليبراليون و حزب الدستوري الحر مستقلون ونشطاء مجتمع مدني، جميعهم ساروا في اتجاه واحد: الدفاع عن الحقوق والحريات، والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ووقف ما يصفونه بتغوّل السلطة وتفريغ المجال العام من معناه.

المسيرة، التي جاءت في سياق سياسي مأزوم، لم تكن حدثًا احتجاجيًا معزولًا بقدر ما عكست تحوّلًا في وعي المعارضة بطبيعة المرحلة. فبعد سنوات من التشتت والرهان على المعالجات الجزئية، بدا أن “الحرية” أصبحت نقطة التقاء أخلاقية وسياسية تتقدّم على الخلافات البرامجية. شعارات المتظاهرين لم تنشغل بإعادة ترتيب السلطة بقدر ما ركّزت على شرطها الأول: دولة القانون، استقلال القضاء، وحق الاختلاف دون خوف من السجن أو التشهير.

على طريقة مسيرات كبرى في تاريخ تونس الحديث، استعاد الشارع دوره كفضاء للضغط الرمزي والسياسي. فقد تعمّد المحتجون إبراز الطابع السلمي والتعددي للمسيرة، في رسالة واضحة إلى السلطة والداخل والخارج مفادها أن المعركة ليست مع الدولة، بل من أجلها؛ ليست ضد النظام العام، بل ضد تحويله إلى أداة إقصاء. هنا تحديدًا يتبدّى الفرق بين مفهوم “الدولة” بوصفها إطارًا جامعًا، و“السلطة” بوصفها ممارسة قابلة للنقد والمساءلة.

اللافت في المسيرة ليس فقط حجمها أو تنوّعها، بل لغتها. فخطاب المحتجين تجاوز ثنائية “الشرعية” و“الخيانة” التي طبعت السجال السياسي مؤخرًا، ليؤكد أن الحقوق والحريات ليست امتيازًا تمنحه السلطة، بل حقًا أصيلًا للمواطن. كما برز حضور لافت لعائلات المعتقلين السياسيين، ما أضفى على الحدث بعدًا إنسانيًا كسر برودة الأرقام والتهم، وأعاد القضية إلى جوهرها: أفراد محرومون من حريتهم بسبب مواقفهم.

في المقابل، تضع هذه المسيرة المعارضة أمام اختبار مزدوج. اختبار الاستمرارية، أي القدرة على تحويل التلاقي الظرفي إلى حد أدنى من التنسيق الدائم حول القضايا الكبرى، واختبار المصداقية، أي ألا تتحول الحرية إلى شعار انتقائي يُرفع حين تكون الانتهاكات موجهة ضد “الخصوم” فقط. فالشارع الذي جمع المتناقضين اليوم، قد يعاقبهم غدًا إن عادوا إلى منطق الإقصاء المتبادل.

أما السلطة، فرسالة المسيرة لها واضحة بقدر ما هي هادئة: القمع قد ينجح في إسكات الأصوات منفردة، لكنه يفشل حين تلتقي. فالتاريخ السياسي التونسي، القريب والبعيد، يعلّم أن انسداد الأفق لا يُدار أمنيًا إلى ما لا نهاية، وأن الشرعية لا تُصان بالملفات القضائية وحدها، بل بالقدرة على استيعاب الاختلاف.

مسيرة المعارضة، في معناها العميق، ليست نهاية معركة ولا بداية حسم، بل علامة على أن المجتمع السياسي التونسي، رغم كل ما أصابه من إنهاك، ما زال قادرًا على استدعاء بوصلته الأخلاقية حين تشتد العتمة. وفي بلدٍ وُلدت ثورته من الشارع، يبدو أن الشارع نفسه يذكّر الجميع، مرة أخرى، بأن الحرية حين تُهدَّد، تُعلِّق الأيديولوجيات خلافاتها… وتمضي معًا.

Amjad Abuarafeh

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews