قصي عبطيني طفل حمل الهتاف على كتفيه، ورجل حمل الثورة على كتفيه حتى استُشهد

شريف فارس – مراسلين
في يوم 21 تموز عام 2001، وُلد في حلب حي صلاح الدين طفل لم يكن يعرف أن قدميه الصغيرتين ستسيران يومًا في قلب المظاهرات، وأن صوته سيصبح أقوى من عمره.
قصي عبطيني، الذي بدأ الحراك الثوري وهو في العاشرة من عمره، لم يكن مجرد طفل بين الحشود؛ كان يُرفع على الأكتاف ليقود الهتاف، كأن الثورة وجدت فيه ابنها المدلل، فتقدّم حيث يتردد الكبار.
شارك قصي مع والده وإخوته في كل مظاهرة، وكان حضوره لافتًا

طفل يهتف للحرية بثبات رجل. ومع دخول الجيش الحر إلى حلب وعودة المدارس، بدأ فصل جديد من سيرته، لكنه لم يترك الشارع ولا الرسالة. لم تمر سنوات حتى وجد نفسه في عالم آخر: عالم التمثيل.
من شغب الطفولة إلى بطولة “أم عبدو الحلبية”
لاحظت إحدى معلماته حركاته العفوية، نشاطه، وشغبه المتواصل. رأت فيه مشروع ممثّل بالفطرة، ودفعته نحو المسرح المدرسي. انطلقت شرارته الأولى من هناك، قبل أن تأتي فرصة لم يتوقعها أحد: لعب دور البطولة في مسلسل “أم عبدو الحلبية”، الذي سرعان ما انتشر بين الناس.
لم يكن الأداء تمثيلًا فقط كان تجسيدًا لروح الثورة، فقصي كان يعيش كل لحظة بصدق، متأثرًا بدم الشهداء والجرحى الذين رآهم. كان يرى أن المسؤولية أكبر من عمره، وأنه ابن لقضية لا يمكن التراجع عنها.

ردّ فعل عائلته كان صادمًا طفل بهذا العمر يحمل أدوار الرجال؟ لكن قصي لم يكن ينظر لنفسه كطفل. كان يرى نفسه صوتًا وشاهدًا ومسؤولًا.
محبوب من الكبير قبل الصغير
بعد المسلسل، صار الناس ينادونه بـ “أبو عبدو”. يوقفونه في الشوارع للتصوير، يعاملونه كفنان كبير، يحترمونه لجُرأته وشجاعته. بات قدوة لعدد كبير من الأطفال والشباب، إذ ترك بصمة واضحة أينما ذهب.

قصي لم يكن فتى عاديًا؛ كان محبًا للتصوير، مولعًا برصد التفاصيل، عاشقًا للكاميرا التي تحوّلت لاحقًا إلى سلاحه الوحيد. وكان كثيرًا ما يشارك في تنسيق وتصوير المعارك، غير آبه بالخطر.
بين الرحيل والبقاء اختار الشهادة
كانت العائلة تخطط لإرساله إلى سويسرا عند جدته، بحثًا عن الأمان، لكن قصي رفض. رفض بشكل قاطع. قالها بوضوح:
“يا إمّا النصر يا الشهادة.”
كان يعتبر خروجه من سوريا خيانة لأحلامه ولدماء رفاقه.
اللحظات الأخيرة طريق الكاستيلو
في عام 2016، وبينما كان يعمل إعلاميًا مع حركة نور الدين الزنكي، أنهى تصوير معركة جديدة وعاد إلى مقره. وفجأة، ورد نداء لمؤازرة عاجلة على جبهة الكاستيلو، حيث كان النظام البائد يتقدّم لفرض حصار على حلب.
طلب منه قائده ألا يذهب، فهو أنهى مهمته لهذا اليوم. لكن قصي لم يستطع البقاء. اختبأ في السيارة دون علم الفريق، وخرج معهم إلى الجبهة.
هناك، استهدفتهم طائرات النظام البائد واستشهد الجميع.
كان ذلك في 8 تموز 2016، ثالث أيام عيد الفطر.
استشهد قصي وهو يفعل ما أحب: يحمل الكاميرا، ويقف في الصف الأول.
فراغ لا يُملأ
ترك قصي فراغًا لا يُملأ، وذكرى تعيد نفسها كل صباح في عيون من عرفوه. كان يساعد والده المصاب على الحركة، يسانده في الطريق، للخروج إلى الشارع. غاب قصي، لكن أثره بقي. بقي صوته، بقيت ضحكته، بقيت أغنيته التي كان يردّدها دائمًا:
“يا يمه توب جديد جيتك شهيد.”

قصي بطل لم يُعطَ عمره فرصة للنضج، لكنه أعطى وطنه كل شيء
لم يكن قصي مجرد طفل شارك بالمظاهرات، ولا ممثلًا في مسلسل، ولا إعلاميًا على جبهة
كان روحًا ثورية خالصة.
روحًا خرجت من حلب صغيرة، لكنها رحلت كبيرة
كبيرة جدًا.



