مقالات

بين الردع والانفجار: إلى أين تتجه معادلة حزب الله وإسرائيل؟

بقلم: ريتا الأبيض
صحافية وباحثة في الإعلام والعلاقات الدولية

يعيش جنوب لبنان منذ أشهر وضعًا لا يمكن وصفه بالحرب الشاملة ولا بالتوقف الكامل للعمليات. فالجبهة الحدودية أصبحت مساحة متواصلة للتوتر واستخدام القوة، حيث تتحوّل كل عملية إلى رسالة سياسية، وكل ردّ إلى إشارة ميدانية تُقرأ بدقة من الجانبين. ورغم محاولات ضبط الإيقاع، تتكرر موجات التصعيد بشكل يجعل الطرفين وكأنهما يتحركان على خط رفيع يمنع الانهيار الشامل لكنه لا يفتح باب الاستقرار.

منذ نهاية حرب عام 2006، بقي الجنوب في حالة من الضبط الأمني النسبي، لكن هذا الضبط لم يكن مستقراً ولا مضموناً. مع اندلاع الحرب في غزة عام 2023، انفجرت الجبهة اللبنانية من جديد، وشهدت أكبر معدل من العمليات منذ 2006. العمليات اليومية، عمليات الاستطلاع، الاستهدافات المتبادلة، وعودة النزوح الواسع من القرى الحدودية، كلها أعادت رسم صورة جديدة للجبهة وأدخلت الطرفين في مرحلة مختلفة عن كل ما سبق خلال السنوات الماضية. فلم يعد ما جرى بعد 2006 كافياً لفهم واقع اليوم، إذ أصبحت الحدود امتداداً مباشراً لتطورات غزة والساحة الإقليمية.

خلال الأعوام الماضية، عزّز حزب الله قدراته العسكرية بشكل واضح، سواء على مستوى الصواريخ أو العمل الميداني، بينما حافظت إسرائيل على مراقبة دقيقة، معتبرة أن أي تغيير في ميزان القوة قد يشكّل تهديداً مباشراً لها. ومع التصعيد الأخير، بات كل طرف يمارس ردعاً محسوباً تجاه الآخر، بحيث يرد ضمن حدود معينة، من دون الوصول إلى مواجهة واسعة يدرك الطرفان أنها ستكون مكلفة ومفتوحة النتائج.

العلاقة بين الطرفين محكومة بمعادلة “توازن القدرة على الإضرار”. كل منهما يدرك قدرة الآخر على إحداث خسائر كبيرة، ولذلك تُدار العمليات على أساس دقيق. وفي هذا الإطار، لم تعد قواعد الاشتباك القديمة هي المعتمدة، بل أصبح هناك مستوى جديد من الضربات التي تحمل رسائل واضحة، من دون أن تصل إلى النقطة التي تُعتبر إعلاناً للحرب.

بالنسبة لإسرائيل، الهدف الأساسي هو منع حزب الله من توسيع نفوذه أو فرض مساحات جديدة من الفعل العسكري والسياسي على الساحة اللبنانية. أما بالنسبة لحزب الله، فهو يسعى إلى الحفاظ على صورته كجهة قادرة على الرد، ورفض أي استهداف إسرائيلي من دون ردّ، لضمان عدم سقوط قدرة الردع أو التشكيك بها. لذلك، تتخذ ردود الحزب أشكالًا مدروسة، تراعي الجبهة الداخلية اللبنانية وتخاطب في الوقت نفسه إسرائيل والإقليم.

الردع المتبادل هنا ليس عسكريًا فقط، بل يتداخل مع الرسائل السياسية والاتصالات غير المباشرة عبر الوسطاء. وكل عملية مهما كانت محدودة، تُقرأ في إسرائيل وفي إيران وفي الولايات المتحدة وربما في عواصم عربية. لذلك يُنظر اليوم إلى الجنوب باعتباره ساحة اختبار مستمرة لمعادلات المنطقة وليس مجرد حدود لبنانية إسرائيلية.

الدور الإيراني حاضر بقوة في هذه المعادلة. فإيران تُعدّ الداعم الاستراتيجي لحزب الله، وتعتبر الحزب جزءاً أساسياً من منظومة نفوذها في المنطقة. أما إسرائيل فترى فيه أخطر امتداد لهذا النفوذ. وعلى هذا الأساس، تُقرأ أي عملية على الحدود اللبنانية ضمن سياق أكبر يشمل المواجهة الأميركية الإيرانية، ومدى تأثيرها على الملفات الإقليمية المختلفة. مع ذلك، ورغم تشابك هذه الملفات، لا ترغب طهران ولا واشنطن بانفجار جبهة لبنان، لما قد تفرضه من تداعيات يصعب ضبطها.

ومع الأزمة المالية العميقة التي يعيشها البلد، تبدو قدرة اللبنانيين على تحمّل تبعات جبهة مفتوحة محدودة للغاية. فهم يعيشون في ظل صراع لا يملكون القدرة على التأثير في قراراته، بينما تتحرك القوى الإقليمية والدولية وفق حساباتها الخاصة.

في الداخل اللبناني، تواجه القوى السياسية واقعًا معقدًا. فحزب الله يجد نفسه أمام معادلة حساسة: الحفاظ على الردع والردّ على إسرائيل، من دون الانجرار إلى حرب شاملة تُحمّله جزءاً كبيراً من المسؤولية الداخلية. ففي الوقت نفسه، تستخدم أطراف سياسية أخرى هذا المناخ لانتقاد دور الحزب داخل الدولة، وتقديم نفسها باعتبارها رافضة لمزيد من الإنزلاق نحو مواجهة واسعة.

ومع كل ذلك، لا يبدو أن الطرفين يتجهان نحو حرب قريبة. إسرائيل الغارقة في انقساماتها الداخلية وأزماتها السياسية تدرك أن المواجهة مع حزب الله ستكون مكلفة، وحزب الله بدوره يدرك أن حربًا واسعة قد تدفع لبنان إلى انهيار لا يمكن تعويضه. لذلك يستمران في إدارة الاشتباك ضمن حدود معيّنة، تسمح بإبقاء الجبهة نشطة، لكن من دون الوصول إلى الانفجار الكبير.

الحدود اليوم تُدار بمنطق “المرونة المحسوبة”إذ انّ كل طرف يرسل إشارات جاهزة، وفي الوقت نفسه يُظهر أن هدفه ليس الحرب. هذا النوع من الاستقرار المؤقت يمكن أن يستمر، لكنه يبقى معرضاً للإنهيار بسبب خطأ واحد أو قراءة خاطئة. فالمعادلة شديدة الحساسية وقد تتغير بسبب عملية واحدة غير محسوبة.

ورغم ثقل الوضع السياسي والعسكري، تبقى الصورة الواقعية هي الأبرز: عائلات هجّرت من منازلها، أراضٍ تُركت بلا زراعة، أطفال يعيشون تحت صوت الطائرات المسيّرة، وقرى تتعامل مع يوميات لا يمكن توقعها. فبين تقارير العواصم وتصريحات القادة، يعيش الناس تجربة مختلفة تمامًا، أساسها الخوف والخسارة والبحث عن الحد الأدنى من الحياة الطبيعية.

المشهد الحالي لا يقود إلى سلام، ولا يتجه نحو حرب شاملة. إنه وضع قائم على توازن القوة، تبادل الرسائل، وإدارة الجبهة وفق مصالح إقليمية واسعة. بين هذه المعادلات، يبقى لبنان في دائرة التأثير من دون قدرة فعلية على التحكم بمسار الأمور. ومع ذلك، يستمر السكان في محاولة التكيف، والبحث عن صيغ للبقاء، والتشبث بما يتوفر من أمل بوقف التصعيد.

فالمعادلة اليوم ليست فقط لبنانية إسرائيلية، بل جزء من صراع على مستقبل المنطقة، حدود النفوذ، وطبيعة الدور الذي ستلعبه القوى المختلفة فيها. وبين الردع والانفجار، يجد لبنان نفسه مرة أخرى أمام مرحلة دقيقة، تتحدد ملامحها بقرارات لا تُتخذ داخله، لكن آثارها تقع عليه أولًا.

Rita Abiad

صحفية وباحثة في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، مهتمة بتغطية الأخبار الرياضية وتحليلها بالإضافة الى خبرة في إدارة منصات التواصل الإجتماعي وانتاج محتوى تحريري بدقة عالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews