الهوية الرقمية والهوية الواقعية: كيف يشكّل فيسبوك الذات المعاصرة؟

بقلم : أ.د. هاني جرجس عياد/ أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الإسلامية بمنيسوتا – الولايات المتحدة الأمريكية
في عصر التحولات الرقمية، أصبح فيسبوك أكثر من مجرد منصة للتواصل الاجتماعي؛ فهو فضاءٌ يعيد تشكيل الهوية الإنسانية نفسها. الهوية لم تعد ثابتة أو محصورة في الواقع الاجتماعي التقليدي، بل أصبحت مرنة ومتعددة الأبعاد، تتأثر بالوجود الرقمي وتفاعلاته المستمرة. هنا، تتقاطع الهوية الرقمية مع الهوية الواقعية، وتشكلان معًا الذات المعاصرة التي يعيشها الفرد في العالم الحديث.
الهوية الواقعية تمثل امتداد الفرد الطبيعي: مواقفه، خبراته، معتقداته، وعلاقاته اليومية المبنية على التجربة الملموسة. أما الهوية الرقمية على فيسبوك، فهي صورة الإنسان كما يريد أن يراها الآخرون، لكنها ليست نسخة زائفة فحسب، بل صياغة متحركة تعتمد على التفاعل الاجتماعي والانتشار الرقمي. هنا، الهوية تصبح عملية مستمرة للتكيف والتحسين، وليست مجرد انعكاس للذات الواقعية.
أحد أهم الأبعاد التي يضيفها فيسبوك هو التشكّل الاجتماعي للهوية. فالأفراد يبنون ذواتهم الرقمية من خلال التفاعل مع الآخرين، كالاعجابات، التعليقات، والمشاركات، والتي تعمل كآليات لتغذية الهوية بالتقدير والاعتراف الاجتماعي. بهذا المعنى، الهوية الرقمية ليست فردية محضة، بل تتشكل ضمن سياق جماعي، حيث يساهم المجتمع الرقمي في تحديد من يكون الفرد وكيف يُقدَّر.
في هذا الإطار، يظهر تأثير المعايير الرقمية على الهوية الواقعية. فالوجود على المنصة يتطلب أحيانًا تعديل السلوكيات والمواقف لتكون متوافقة مع توقعات الجمهور الرقمي. هذا قد يؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات والقيم، حيث تصبح الهوية الرقمية معيارًا للتقدير الاجتماعي، وقد تؤثر على القرارات اليومية في الحياة الواقعية. الفضاء الرقمي هنا ليس مجرد مساحة عرض، بل عامل فعال في تشكيل الذات.
الهوية الرقمية أيضًا تخلق فضاءً للتجريب الذاتي. يمكن للفرد تجربة أدوار جديدة، التعبير عن أفكار أو مشاعر لم يكن ليعبر عنها في الحياة الواقعية، مما يتيح تطور الذات واستكشاف إمكانيات جديدة للهوية. إلا أن هذا التجريب قد يولّد أيضًا فجوة بين الهوية الواقعية والهوية الرقمية، مما يضع الفرد في حالة مستمرة من الموازنة بين الحقيقة والتوقع الرقمي.
من الناحية النفسية، هذه العملية المستمرة للتشكيل الرقمي قد تعزز الإحساس بالقيمة الذاتية، لكنها قد تؤدي في الوقت ذاته إلى القلق النفسي، إذ تصبح الهوية الرقمية عرضة للتقييم المستمر، ما يعرف بـ”القلق الرقمي”، وهو التوتر الناتج عن محاولة المحافظة على صورة مقبولة دائمًا أمام جمهور متغير.
يمكن تفسير تأثير فيسبوك على الهوية من منظور نظري عميق. على سبيل المثال، ينطبق مفهوم العروض المسرحية للذات لجوفمان، حيث يصبح كل منشور أو صورة بمثابة عرض يتم تقديمه أمام جمهور محدد، لكنه في السياق الرقمي، جمهور عالمي ومتغير، والتقييم مستمر ومرئي. هذا يحوّل الهوية إلى عملية ديناميكية، تعتمد على التفاعل الاجتماعي الرقمي.
بالإضافة إلى ذلك، يعكس التفاعل بين الهوية الرقمية والواقعية تغيرات في مفاهيم الانتماء والهوية الاجتماعية. فالأفراد اليوم يقيسون انتماءهم الاجتماعي ليس فقط عبر الروابط الواقعية، بل من خلال قدرتهم على الظهور، التفاعل، والحصول على التقدير الرقمي. هذا يشكل طبقة جديدة من الهوية الاجتماعية المعاصرة، حيث القيمة ليست مقتصرة على الواقع، بل تشمل حضور الفرد الرقمي.
من جانب آخر، يتيح فيسبوك أيضًا آليات للتمكين والتعبير. يمكن للهوية الرقمية أن تدعم المشاركة السياسية، التعبير عن المعتقدات، والتفاعل مع المجتمعات التي قد تكون بعيدة جغرافيًا. وهكذا، تصبح الهوية الرقمية امتدادًا واعيًا للذات الواقعية، ويزداد دور الفرد كفاعل اجتماعي في فضاء موسع يتجاوز الحدود التقليدية.
لكن الإفراط في الانغماس في الهوية الرقمية يؤدي إلى تحديات حقيقية، مثل فقدان الأصالة، زيادة الضغوط النفسية، وصعوبة التكيف الاجتماعي الواقعي. إذ يصبح الانفصال المستمر بين الهوية الواقعية والرقمية عاملاً ضاغطًا على الفرد، ويؤثر في إدراك الذات والرضا الشخصي.
في الختام، يمكن القول إن فيسبوك لا يقتصر دوره على منصة تواصل، بل أصبح عاملًا مؤثرًا في تشكيل الهوية المعاصرة. الهوية اليوم هي نتيجة تفاعل بين الذات الواقعية والذات الرقمية، بين الفرد والجمهور الرقمي، بين الواقع والتمثيل، مما يجعل فهم الهوية في العصر الرقمي عملية معقدة ومستمرة. التحدي الأساسي يكمن في إيجاد توازن واعٍ بين الهوية الرقمية والواقعية، بحيث تعكس الذات الرقمية امتدادًا للذات الحقيقية، وتدعم التعبير والأصالة دون أن تفرض قيودًا نفسية أو اجتماعية.



