سلايدرمقالات

رحلةٌ إلى روما

بقلم – يحيى حسين عبد الهادي

(إنَّ المسرح عَلَّمَنِي أن أكثرَ المشاهدِ هزليةً هي مشاهدُ الطغاةِ والمتجبرين)- صافي ناز كاظم.
نصحني بعضُ الأصدقاء بأن أمنح نفسي راحةَ مُحارب (مع أنَّ راحة المحارب أن يحارِب) في ظل قتامةِ المشهد، وتَجَّمُد الأوضاع على أسوأِها .. إذ لم يعد لَدَيَّ أيُّ جديدٍ أُضيفه، فقد قُلتُ رأيي مبكراً بصراحةٍ عن كلِّ شئٍ (عن المعتقلين، والحوار، وصندوق بيع مصر، والاصطفاف، والانتخابات، والبيوعات الباطلة .. إلخ) .. وقد قررتُ والحالُ كذلك أن أستمع للنصيحة وأستَّلَ روحي من هذا المناخ الخانق وأهرب من براكين السياسة والهَمِّ المصري في إجازةٍ قصيرةٍ بعيداً عن المكان والزمان .. فصعدتُ إلى آلة الزمن المتجهة إلى روما فهبطت بي في بداية القرن الأول الميلادي.
مَنَّيْتُ النفْسَ برحلةٍ ممتعةٍ بين حُكماء روما في برلمانها الشهير ونعيمها الديمقراطي .. لكنني فوجئتُ بالرعب يعتصر المدينةَ، والتعاسة ترتسم على وجوه مواطنيها، إذ شاء حظي العاثر أن أصل إلى روما وقد مَسَّ الجنونُ امبراطورها كاليجولا.
هل هناك أتعَسُ من مواطنٍ يحكمه مُستبد؟ .. نعم، أن يكون هذا المستبد مجنوناً .. فبعض المستبدين عقلاء، بل وطنيون، يمكن التنبؤ بردود أفعالهم .. الكارثة أن يحكمك مستبدٌ تحكمه هلاوسه وضلالاته .. إنها خلطة البطش والجنون .. المُختَّل والسيَّاف .. التي رصد التاريخُ بعضاً من نوادرها المفجعة .. مثل نيرون الذي أراد تطوير قلب روما عاصمة إمبراطوريته، فأمر بحرقها ليعيد بناءها من جديد(!) .. أو الحاكم بأمر الله الذي منع أحذية النساء حتى لا يخرجن من بيوتهن، وطَوَّق رقاب المسيحيين بصلبانٍ ثقيلةٍ، وحَرَّمَ أكل وبيع الجرجير والملوخية .. لكن أقدم وأشهر الحكام المجانين في التاريخ الإنساني هو كاليجولا (خال نيرون) الذي حكم روما وعمره ٢٤ عاماً .. وبعد جلوسه على العرش بستة شهور فقط ادَّعى الألوهية .. وصار مشروعه الأهم هو بناء جسرٍ يربط بين دولته وكوكب المشتري ليتشاور مع أقرانه من الآلهة الأخرى .. ولأنه إله فقد كانت تخاريفه تُنَّفذُ فوراً دون مناقشةٍ، كقراره بقتل كل الصُلع في روما (باستثنائه فقد كان أصلع!) ..
وقد شجَّعه خوف الشعب على التمادي في الخَرَف .. فمَنْ أَمِنَ العقوبة أساء الأدب ..إلى أن جاءت ضربته القاصمة المهينة لمجلس الشورى (فخر روما وديمقراطيتها) .. دخل كاليجولا مجلس الشيوخ ممتطياً صهوة جواده (تانتوس) ولما لاحظ اندهاش وامتعاض بعض الأعضاء، قال لهم والسياف إلى جواره:(أنا لا ادري لماذا اندهش بعضكم من دخول جوادي المحترم رغم أنه أكثر أهميةً منكم .. يكفي أنه يحملني) .. ثم أصدر قراراً بتعيين جواده عضواً كامل العضوية والحصانة في مجلس الشيوخ .. أذعن الجميع للقرار، بل إن بعضهم (من الموجودين دائماً في مثل هذه البرلمانات) هتفوا للقرار الحكيم للحاكم الإله .. فدعاهم إلى حفل عشاءٍ على شرف زميلهم الجديد .. وفي الموعد المحدد جاء الجميع بالملابس الرسمية وانضم إليهم تانتوس مرتدياً بردعته الجديدة .. وبدأ الحضور يلتهمون عشاءهم الموحد من التبن والشعير (وسيوف الحرس الإمبراطوري جاهزةٌ لمعالجة أيِّ عُسر هضم).
لَمَحتُ من بعيدٍ آلة الزمن فلم أنتظر لأتابع بقية المسخرة وقفزتُ فيها عائداً إليكم .. مُحَّمَلاً بطاقةٍ إيجابيةٍ جعلتني أسجد على أرض القاهرة بمجرد عودتي، شاكراً لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خَلْقِه .. هاتفاً برضاً كاملٍ : الحمد لله أننا لم نُصبح مثل روما.
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادي
السبت ٩ سبتمبر ٢٠٢٣

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews