الجزائر : عين الفوارة حين تتحول المنحوتة الى سؤال مفتوح في قلب سطيف

مولود سعدالله مراسلين
بين حجر أملس وماء لا يتوقف عن الجريان منذ قرون ، تقف نافورة عين الفوارة وسط مدينة سطيف كأحد أكثر معالمها إثارة للجدل لأنها بجوار مسجد عتيق للمدينة ، معلم عمره أكثر من قرن تحول من نافورة ماء إلى رمز حضري ثم إلى ساحة صراع رمزي بين قراءات متناقضة: قراءة ترى فيه جزءا من هوية المدينة وذاكرتها، وأخرى تعتبره جسدا غريبا عن قيمها الدينية والاجتماعية.
يردد سطايفيون مقولة شعبية مفادها أن “من يشرب من ماء عين الفوارة لا بد أن يعود إليها” عبارة تختصر علاقة وجدانية خاصة بين المكان وسكانه غير أن هذه العلاقة لم تكن دائما هادئة، إذ ظل التمثال المرمري محاطا بأسئلة تتجدد مع كل حادثة تخريب، ومع كل نقاش يعود إلى الواجهة حول معناه ومشروعية بقائه .
تعود نافورة عين الفوارة إلى سنة 1898وهي منحوتة من الحجر الأبيض والمرمر، أقيمت فوق عين ماء طبيعية تتوسط اليوم ساحة الاستقلال في قلب مدينة سطيف ، أنجزها النحات الفرنسي الإيطالي الأصل فرنسيس سان فيدال خلال الفترة الاستعمارية في سياق تاريخي ما تزال تفاصيله محل روايات متعددة.
إحدى هذه الروايات تشير إلى أن المنحوتة عرضت في فرنسا ضمن معرض فني حيث لفتت انتباه الحاكم العسكري الفرنسي لسطيف آنذاك، فتم نقلها وتنصيبها في المدينة ، روايات أخرى تربطها بقصة عاطفية قديمة تعود إلى البلاط الملكي الأوروبي، بينما يربطها باحثون بالسياق الاستعماري الذي سعى إلى إعادة تشكيل الفضاءات الحضرية الجزائرية وفق رموز جديدة.
ويذهب بعض المهتمين بتاريخ المدينة إلى أن موقع عين الفوارة كان في الأصل فضاء مائيا ذا طابع معماري تقليدي استعمل من قبل السكان قبل أن يطمس معالمه خلال الاحتلال ويعاد توظيفه ، ويقال إن الهدف منه كان صرف المصلين والمرتدين على المسجد لإحراجهم وهذا حسب روايات شعبية .
تمثل المنحوتة جسد امرأة نصف عاريةوهو ما جعلها محل انقسام واضح في المواقف ، فبالنسبة لشريحة واسعة من سكان المدينة أصبحت عين الفوارة معلما ثقافيا ورمزا حضريا ارتبط بالذاكرة اليومية، ومكانا للتلاقي في وسط المدينة ، كما ألهمت شعراء وأدباء وفنانين جزائريين وعرب، وتحول اسمها إلى مرادف لمدينة سطيف نفسها.
في المقابل يرفض جزائريون وجود التمثال من منطلق ديني وأخلاقي، معتبرين أن تجسيد جسد امرأة عادية يخدش الحياء العام ويتعارض مع القيم الإسلامية ، ويصف هؤلاء المنحوتة بأنها إرث استعماري لا ينسجم مع هوية المدينة مطالبين بإزالتها أو طمسها.
وقد تعزز هذا الرفض عبر تصريحات وفتاوى دينية اعتبرت التمثال “صنما” بل وصل الجدل إلى حد التشكيك في جواز شرب الماء من النافورة في المقابل، رفضت أصوات ثقافية وإعلامية هذه الطروحات معتبرة إياها قراءة حديثة لم تكن حاضرة في وعي سكان المدينة لعقود طويلة.
حين يتحول الخلاف إلى تخريب
لم يبقِ الجدل حول عين الفوارة في حدود النقاش فقط، بل ترجم في أكثر من مناسبة إلى اعتداء مباشر على المعلم.
ففي 22 أبريل 1997 خلال سنوات العشرية السوداء تعرض التمثال لتفجير بواسطة قنبلة وُضعت أسفله، ما أدى إلى تحطيمه إلى أجزاء ، الحادثة أثارت حينها صدمة كبيرة في المدينة ودفعت السلطات المحلية إلى ترميمه في أقل من 24 ساعة.
وفي 18 ديسمبر 2017 أقدم رجل على تخريب المنحوتة باستخدام مطرقة، في حادثة وثقتها وسائل الإعلام على نطاق واسع ، وبينما قالت الروايات الرسمية إن الفاعل مختل عقليا، ربطت مصادر أخرى الحادثة بخلفية عقائديةوقد قوبل الفعل باستنكار شعبي، واعتبر مساسا بتاريخ المدينة ورمزها.
وآخر محاولات التخريب سجلت في يوليو الماضي، ما أعاد الجدل مجددا حول مصير النافورة، وحدود حماية التراث في ظل اختلاف المرجعيات.
اليوم لا تزال عين الفوارة قائمة في مكانها مرممة ومحاطة بالحراسة، لكنها ما تزال تحرك أسئلة أعمق من كونها مجرد تمثال ، هل هي معلم تاريخي يجب حمايته بوصفه جزءا من الذاكرة الحضرية؟
أم رمز استعماري يستدعي إعادة قراءة ومراجعة؟
وكيف يمكن لمدينة مثل سطيف أن توازن بين احترام قيمها الدينية وصون معالمها التاريخية؟




