الصابون الحلبي: إرث بين الأصالة والتجدد

مصطفى حاج سلوم/ حلب- سوريا
يعد الصابون الحلبي أو ما يعرف بصابون الغار أكثر من مجرد منتج منزلي فهو إرث حضاري ضارب في جذور التاريخ ومرآة لهوية مدينة حلب الاقتصادية والثقافية. فمنذ قرون طويلة شكل هذا الصابون الطبيعي المصنوع من زيت الزيتون وزيت الغار رمزا للمهارة الحرفية والالتزام بالجودة حتى غدا اسمه علامة عالمية في عالم الصناعات التقليدية ورغم ما مرت به المدينة من أزمات وحروب تركت أثرها العميق على اقتصادها ظل الصابون الحلبي شاهدا على صمود الحرفيين وقدرتهم على حماية هذا التراث ونقله للأجيال ليبقى عنوانا للأصالة ونافذة للأمل في إعادة الحياة إلى حلب من جديد
التاريخ والتراث:
يعود تاريخ صناعة الصابون الحلبي إلى آلاف السنين ويعتقد أنه من أقدم أنواع الصابون في العالم تشير الروايات التاريخية إلى أن جذوره تعود إلى الحقبة الآشورية والرومانية قبل أن يزدهر على نحوٍ واسع في العصور الإسلامية حيث عرفت حلب كمركزٍ تجاري وصناعي بارز على طريق الحرير وقد شكل الصابون الحلبي على مر العصور سلعة أساسية في التجارة الخارجية للمدينة حتى وصل إلى أسواق أوروبا في القرون الوسطى عبر الموانئ السورية واللبنانية
لم يكن الصابون الحلبي مجرد منتج للتنظيف بل تحول إلى رمزٍ حضاري يعكس مهارة الحرفيين السوريين وقدرتهم على المزج بين البساطة والفائدة. وقد ارتبطت صناعة الصابون بالموروث الاجتماعي والثقافي الحلبي حيث تناقلت العائلات أسرار المهنة جيلا بعد جيل لتصبح علامة فارقة في هوية المدينة و مؤخرا نالت هذه الصناعة اعترافا دوليا بإدراجها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو بوصفها شاهدا على الأصالة السورية و صمودها أمام تحديات الزمن و الحروب.

المكونات وطريقة الصنع
يقوم الصابون الحلبي على مكونات طبيعية أساسية حافظت على أصالتها عبر القرون أبرزها زيت الزيتون الذي يشكل القاعدة الأساسية ويمنح الصابون خصائص ترطيبية و ملمسا ناعما وزيت الغار الذي يضيف إليه خواصا مطهرة وعطرا مميزا ويحدد جودته وسعره تبعا لنسبته في الخليط. يضاف إلى ذلك الماء و مادة (الصودا الكاوية الطبيعية) اللازمة لعملية التصبن لتكتمل وصفة الصابون النقي الخالي من المواد الكيميائية أو الإضافات الصناعية.

عملية الصنع التقليدية
تبدأ العملية بتسخين زيت الزيتون والماء و الصودا في قدور نحاسية ضخمة تعرف محليا باسم “القدور الكبيرة” حيث يحرك المزيج على نار هادئة لساعات طويلة حتى يتماسك عند الوصول إلى مرحلة التصبن يضاف زيت الغار بعناية في المرحلة النهائية للحفاظ على خصائصه العلاجية.
بعد ذلك يسكب المزيج على أرضيات حجرية ملساء لتبرد الكتلة الصابونية و تتماسك خلال يوم كامل. ثم تقطع إلى مكعبات يدوية باستخدام أدوات تقليدية وتختم بخاتم المصنع أو الحرفي كعلامة جودة. ترص القطع في قوالب بشكل هرمي أو دائري لتجف وتعالج طبيعيا في مخازن خاصة تمتد من ستة أشهر إلى عام كامل حتى يكتسب الصابون صلابته ويغير لونه الخارجي من الأخضر الداكن إلى الذهبي الفاتح بينما يحتفظ قلبه بلونه الأخضر الزيتوني.
الجودة والعوامل المؤثرة
تتحدد جودة الصابون الحلبي بعدة عوامل رئيسية:
نسبة زيت الغار: كلما ارتفعت نسبته زادت القيمة العلاجية والعطرية للصابون مما يرفع من سعره ومكانته في الأسواق.
مدة التجفيف (التعتيق): الصابون المعتق لفترات طويلة يكون أصلب وأكثر فاعلية وأطول عمرا عند الاستخدام.
نقاء المواد الأولية: جودة زيت الزيتون وزيت الغار تلعب دورا أساسيا في النتيجة النهائية حيث يفضل الزيت البكر الممتاز.
الالتزام بالطريقة التقليدية: الورش التي ما تزال تحافظ على الأساليب اليدوية القديمة تنتج صابونا يصنف عالميا ضمن المنتجات التراثية الفاخرة.

الوضع الراهن والتحديات
رغم مكانته التاريخية وسمعته العالمية عانت صناعة الصابون الحلبي خلال السنوات الأخيرة من ضغوط هائلة بفعل الأوضاع السياسية والاقتصادية في سوريا ولا سيما في مدينة حلب فقد أدت الحرب إلى تدمير العديد من المصانع والورش التقليدية فيما اضطر بعض الحرفيين إلى النزوح أو نقل صناعتهم إلى مناطق أكثر أمانا داخل البلاد أو حتى إلى دول الجوار وبذلك تراجع عدد الورش المنتجة إلى أقل من ربع هذا العدد حاليا.
إلى جانب الخسائر المباشرة تواجه الصناعة تحديات أخرى لا تقل خطورة:
تأمين المواد الخام: إذ أصبح الحصول على زيت الزيتون وزيت الغار بمواصفات عالية الجودة أكثر صعوبة بسبب تقلبات الإنتاج الزراعي وارتفاع الأسعار.
ضعف البنى التحتية: نقص الكهرباء والمياه وشبكات النقل يؤثر على استمرارية الإنتاج وجودته.
المنافسة غير المنضبطة: ظهور منتجات تسوق باسم “الصابون الحلبي” دون أن تلتزم بالمكونات أو المعايير التقليدية مما يسيء إلى السمعة الأصلية عالميا.
القيود الاقتصادية: صعوبة وصول المنتج إلى أسواقه الطبيعية في أوروبا وآسيا.
الفرص المستقبلية
على الرغم من الصعوبات التي تمر بها صناعة الصابون الحلبي فإن المستقبل ما يزال يحمل فرصا واعدة لإعادة إحياء هذا المنتج العريق وتعزيز مكانته عالميا:
الطلب العالمي على المنتجات الطبيعية: يشهد سوق العناية الشخصية إقبالاً متزايداً على المنتجات العضوية والصديقة للبيئة وهو ما يمنح الصابون الحلبي ميزة تنافسية استثنائية بوصفه منتجا خالياً من المواد الكيميائية.
التصدير إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية: ينظر إلى الصابون الحلبي في الخارج كمنتج فاخر ما يفتح المجال أمام توسع كبير في الصادرات إذا ما توفرت معايير الجودة والتغليف الحديثة.
التسويق كتراث عالمي: بعد إدراج الصناعة في قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو يمكن استثمار هذه المكانة في حملات تسويقية تربط المنتج بتاريخ حلب وثقافتها.
السياحة الثقافية والصناعية: تحويل معامل الصابون التقليدية إلى وجهات سياحية ومراكز للتعريف بالتراث بما يسهم في تنشيط السياحة وخلق فرص عمل جديدة.
الدعم المؤسسي والدولي: في حال توفير برامج تمويل وتأهيل للبنية التحتية يمكن لهذه الصناعة أن تستعيد قوتها وتصبح عنصرا مهما في إعادة إنعاش الاقتصاد المحلي.
التطوير مع الحفاظ على الأصالة: إدخال تقنيات حديثة في التغليف والتسويق عبر التجارة الإلكترونية مع الإبقاء على الوصفة التقليدية سيمنح المنتج قدرة أكبر على المنافسة العالمية.
يبقى الصابون الحلبي أكثر من مجرد منتج أو سلعة إنه قصة مدينة تصمد في وجه الزمن وذاكرة حية تنبض بمهارة الحرفيين الحلبيين و إبداعهم المتوارث عبر الأجيال. ورغم التحديات والصعاب التي واجهتها هذه الحرفة ما زالت تتجدد بفضل أصالتها و فرادتها مدفوعة بالاهتمام العالمي المتزايد بالمنتجات الطبيعية إن الحفاظ على الصابون الحلبي ليس واجب الحرفيين وحدهم بل مسؤولية جماعية ثقافية واقتصادية ليظل شاهدا على هوية حلب وتراثها ورافعة للأمل والتنمية وجسرا يربط بين عبق الماضي وروعة المستقبل.
مصدر الصور محافظة حلب