الاقتصاد ليس أرقامًا فقط.. بل قيم، وسلوك، وعلم

شبكة مراسلين
مقال بقلم: محمد سعد الأزهري
غالبًا ما يُنظر إلى الاقتصاد على أنه مجرد أرقام وجداول ومعادلات، لكن الحقيقة أن الاقتصاد الناجح لا يُبنى فقط على الحسابات، بل على منظومة متكاملة من القيم الإنسانية والسلوكيات المجتمعية والتحفيز الأخلاقي. فكم من دولة امتلكت المال والثروات، لكنها أخفقت في تحقيق النهضة؟ وكم من أمة بدأت من الصفر، لكنها شيدت صروحًا اقتصادية عظيمة بفضل أخلاقيات العمل والانضباط المجتمعي؟
أولًا: القيم الأخلاقية أساس الاقتصاد السليم
في التجارب العالمية الناجحة، لعبت القيم دورًا محوريًا في صناعة اقتصاد منتج:
- الصدق والنزاهة: تقلل من التكاليف وتزيد من كفاءة التعاملات الاقتصادية، وتحد من الفساد.
- الاحترام والانضباط: يعززان ثقافة العمل الجماعي، ويزيدان من الإنتاجية.
- العدل والشفافية: يرفعان من مستوى الثقة بين المواطن والدولة، وبين المستثمر والسوق.
ثانيًا: سلوكيات الشعوب وتوجهاتها تحدد مسار التنمية
لا يمكن لأي خطط اقتصادية أن تنجح دون أن تكون الشعوب مستعدة للمشاركة:
- الشعوب التي تقدّر العمل وتعتبره قيمة، هي شعوب تصنع الازدهار.
- المجتمعات التي تستهلك أكثر مما تنتج، تعيش دائمًا تحت ضغط العجز.
- التوجه نحو “الاستهلاك الاستعراضي” بدلًا من “الادخار والاستثمار” يجعل الاقتصاد هشًا.
ثالثًا: أمثلة حية على التحول القيمي والسلوكي
- اليابان: بعد الحرب، لم تركز فقط على الصناعة، بل أعادت بناء الإنسان الياباني بروح التضحية والانضباط والإتقان. هذه القيم انعكست على الاقتصاد.
- كوريا الجنوبية: بثّت في الأجيال الشابة قيم التعليم والعمل الجماعي، ما أنتج قوة تكنولوجية لا يستهان بها.
- ألمانيا: بُنيت من جديد على قيم الالتزام والمهنية، ما أعاد لها مكانتها الصناعية بعد دمار الحرب.
رابعًا: الفساد عدو القيم وعدو الاقتصاد
- الفساد ليس مجرد سرقة، بل هو تهديد مباشر لأي محاولة للنهوض.
- المجتمعات التي تتسامح مع المحسوبية والرشوة، تفرغ أي نظام اقتصادي من روحه.
- لا استثمار بلا ثقة، ولا ثقة بلا مؤسسات نزيهة تحترم القانون.
خامسًا: الاقتصاد سلوك يبدأ من البيت إلى الدولة
- تعليم الأطفال ثقافة التوفير والادخار.
- تشجيع الشباب على المبادرة والمشاريع الصغيرة.
- احترام المال العام ومرافق الدولة.
- إعادة الاعتبار لقيمة “الإنتاج” بدلًا من “الربح السريع”.
سادسًا: دور الدين والثقافة والإعلام في تشكيل الوعي الاقتصادي
- في الإسلام، يُعد العمل عبادة، والصدق في المعاملة شرطًا، والغش محرّمًا.
- الأديان جميعًا تحث على الكسب الحلال والإتقان في العمل.
- الإعلام مسؤول عن كسر الصور النمطية التي تحصر النجاح في الثراء السريع أو الاستهلاك المبالغ فيه.
سابعًا: عندما تتحول الثروة إلى نقمة بفعل الفساد وسوء الإدارة – دروس من العراق وسوريا واليمن
ليست كل الثروات بركة، وليست كل الدول الغنية تنجح. بل في أحيان كثيرة، تتحول الثروة إلى نقمة حين يغيب الوعي، وتضيع الأخلاق، ويُستبدل العلم بالمحسوبية، وتُدار الدول كما تُدار المزارع الخاصة. وهنا بعض من أكثر النماذج إيلامًا في التاريخ العربي الحديث:
العراق: من أغنى دول العالم إلى انهيار شامل
في الثمانينات، كان العراق يُعد من أغنى دول العالم من حيث احتياطات النفط، ونوعية التعليم، والبنية التحتية، والكفاءات العلمية. لكن:
- أدت المحسوبية الحزبية، وسياسات التمكين، وتصفية المعارضين، إلى تفريغ مؤسسات الدولة من الكفاءة.
- اندفعت البلاد إلى حروب متكررة، بدءًا من الحرب مع إيران، ثم غزو الكويت، وما تبعه من عقوبات خانقة، ثم الاحتلال الأمريكي، الذي كشف هشاشة الدولة.
- تحولت موارد النفط إلى غنائم للطبقة السياسية الفاسدة.
- انهارت الصحة، والتعليم، والبنية التحتية، رغم استمرار تدفق المليارات من عائدات النفط.
اليوم، يعيش العراق مفارقة موجعة: دولة غنية بالموارد، لكنها فقيرة في الخدمات، غنية بالكفاءات، لكنها طاردة للعقول.
سوريا: اكتفاء ذاتي تحوّل إلى عجز وفوضى
في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، كانت سوريا نموذجًا للاكتفاء الذاتي:
- تزرع وتنتج وتصدّر الملابس، الفاكهة، الزيتون، القطن، وحتى الصناعات الخفيفة.
- شعبٌ متعلم، وطبقة وسطى فاعلة، واقتصاد متنوع.
لكن خلال العقود الخمسة الماضية:
- تحوّلت الدولة إلى نظام مركزي قمعي، يحتكر الاقتصاد والقرار.
- سادت ثقافة الفساد والولاءات الأمنية على حساب الكفاءة والشفافية.
- تم تدمير روح المبادرة الاقتصادية، وتهميش القطاع الخاص.
- وعندما اندلعت الثورة، كشفت الأزمة الاقتصادية والبنية الضعيفة عمق الانهيار.
اليوم، تُستورد أبسط مقومات الحياة، وتحولت سوريا من بلد يصدر منتجاته، إلى بلد يُعتمد على المساعدات الدولية لتوفير الغذاء والدواء.
اليمن: من “اليمن السعيد” إلى أفقر بلد عربي
تاريخيًا، اليمن هو مهد الحضارات العربية القديمة. في عهد مملكة سبأ وحِمير، كان اليمن من أهم نقاط التجارة العالمية، ويمتلك بنية زراعية راقية لسقيا الأمطار (سد مأرب مثالًا)، وطرق تجارة تربط الهند بالبحر الأحمر.
لكن في العصر الحديث:
- تم إقصاء العقلاء، وصعدت القبيلة والطائفة والولاء الشخصي بدل الكفاءة.
- أصبح اليمن رهينة لصراعات سياسية وحزبية وعسكرية.
- أدت الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية إلى تفكك الدولة تمامًا.
- تصاعد الفقر إلى مستويات قياسية، وانعدمت الخدمات، وزادت الأمراض.
ورغم موقعه الاستراتيجي وثرواته من الغاز والمعادن والموانئ، يعيش اليمن أسوأ أزمة إنسانية في العالم بشهادة الأمم المتحدة.
الاقتصاد الناجح لا يبنى فقط بالموازنات والقوانين، بل بالوعي والسلوك، بالقيم قبل القرارات. فالمعادلة بسيطة: إن أردت اقتصادًا قويًا، ربِّ إنسانًا مسؤولًا. ومتى ما تكاملت القيم والسلوكيات مع السياسات والخطط، انطلقت النهضة الحقيقية. الاقتصاد في جوهره ليس مجرد حركة مال… بل هو انعكاس لمن نكون، وكيف نعيش.
ثامنًا: حين تُهدر الثروات وتُبنى السراب… دروس من الإنفاق غير الرشيد
لا تنهار الاقتصادات فقط بسبب الحروب أو الكوارث، بل أحيانًا تسقط بصمت تحت وطأة القرارات غير الرشيدة، والإنفاق العبثي، وتجاهل أولويات الشعوب.
في عديد من الدول العربية، وأبرزها مصر في السنوات الأخيرة، شهدنا نماذج صارخة لمشروعات عملاقة تم الترويج لها بوصفها “مشروعات قومية”، لكنها:
- لم تُراعِ احتياجات الناس الأساسية.
- لم تُبنَ على دراسات جدوى اقتصادية واضحة.
- لم تحقق مردودًا إنتاجيًا أو صناعيًا أو زراعيًا ملموسًا.
- لم تُساهم في تحسين جودة حياة المواطن، بل زادت من معاناته.
1. العاصمة الإدارية والقصور الرئاسية في مصر: مدينة فاخرة في محيط يئن
تم الإعلان عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة باعتباره خطوة نحو “مستقبل حضاري”، ورافقه بناء قصور ومقار حكومية فخمة، ومساجد ضخمة، وناطحات سحاب، وأبراج زجاجية، في حين كانت الدولة:
- تُعاني من عجز في الميزانية وارتفاع في الدين العام.
- تشهد إغلاق آلاف المصانع والورش الصغيرة بسبب نقص المواد الأولية، وتعقيد الإجراءات، وارتفاع التكاليف.
- تسجل أعلى مستويات البطالة بين الشباب، حيث وصلت في بعض التقديرات غير الرسمية إلى 40%.
- تراجع فيها الجنيه المصري لأدنى مستوياته، حتى بات الدولار يساوي عشرات الجنيهات، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطن.
2. تآكل الطبقة الوسطى وانحدار الفقراء إلى قاع المجتمع
الطبقة الوسطى، التي تُعد العمود الفقري لأي اقتصاد مستقر، بدأت في التلاشي:
- فقد الموظف دخله الحقيقي.
- لم يعد أصحاب الورش والحرف قادرين على شراء المواد الخام أو بيع إنتاجهم.
- أُجبر كثير من أصحاب المشاريع الصغيرة على الإغلاق والهجرة أو العمل بالأجرة.
أما الطبقة الفقيرة، فقد انحدرت إلى طبقة معدمة، لا تملك ما يكفي لتأمين الغذاء أو الدواء، فشهدنا:
- انفجارًا في معدلات الانتحار.
- ارتفاعًا مخيفًا في نسب الطلاق والعنوسة نتيجة العجز عن تأسيس أسرة.
- إغلاق مئات شركات المقاولات، مما أدى إلى توقف عمل آلاف الحرفيين: النجار، الحداد، الكهربائي، والدهان، وصولًا إلى تجار مواد البناء.
3. ماذا يعني الاقتصاد الحقيقي؟
المشروعات الحقيقية ليست تلك التي تُصوَّر بطائرات “الدرون” وتُنشر في نشرة الأخبار، بل تلك التي:
- تشغل الناس وتنتج وتصدّر.
- تُؤمِّن الغذاء، والدواء، والسكن، والتعليم.
- تُحفّز رأس المال المحلي وتحميه من الاحتكار والاستحواذ.
- تدعم الطبقة الوسطى وترفع الفقراء لا تدفنهم.
تاسعًا: حين تُخدَّر الشعوب… من الاقتصاد إلى الأخلاق
إذا كان الفساد المالي يُفقر الشعوب، فإن الفساد الأخلاقي يُميت الروح ويهدم الأوطان من داخلها.
وفي عالمنا العربي والأفريقي، لم يكن تراجع الاقتصاد مفصولًا عن تراجع منظومة القيم والأخلاق، بل هما وجهان لعملة واحدة، يُغذّي كل منهما الآخر، وتُديره في كثير من الأحيان ذات الأيادي.
1. الترفيه الهابط: أفيون الشعوب الجديد
في العقود الأخيرة، لجأت بعض الأنظمة الأمنية والاستخباراتية إلى سلاح ناعم وخبيث: إشغال العقول والقلوب بالمهرجانات الفنية الهابطة، والفنانين والفنانات الذين لا يملكون من الفن إلا اسمه، ولا من القيمة إلا ضدها.
- استُبدلت الأصالة بالميوعة.
- تَصدّر الشاشات من يمجّد التفاهة والسفاهة.
- أُغرقت المدن بالمهرجانات، والغناء المبتذل، والحفلات التي تموَّل من المال العام، ويُستورد لها نماذج عالمية من الفجور الفني والسلوكي، في الوقت الذي يُطالب فيه المواطن بالتقشف والصبر على الجوع.
2. استهداف الطبقة الحاسمة: الشباب
أخطر ما في هذا الانهيار أنه لم يكن عشوائيًا، بل موجّهًا إلى الطبقة الحرجة المؤثرة: الشباب والفتيات، العمود الفقري لأي نهضة:
- شُجّعوا على تقليد نماذج منحطة.
- زُرع فيهم اليأس من التغيير.
- شُغِلوا بالميديا والفضاء الأزرق وقصص النجوم والمشاهير والعلاقات الزائفة، وابتعدوا عن ساحات الإبداع، والاختراع، والعمل، والتفوق الحقيقي
3. الإعلام “الساحر”… بين فرعون وحرية كاذبة
المشهد يُذكّرنا بسحرة فرعون الذين أدهشوا الأبصار وأربكوا العقول، فصار الحق باطلًا والباطل حقًا.
تم تزييف الوعي تحت شعارات الحرية والحضارة:
- نُشر الفجور تحت راية “الفن”.
- دُمّرت الأسر والأخلاق تحت شعار “التطور والانفتاح”.
- سُخّرت المنصات الإعلامية والمحتوى الرقمي لهدم كل قدوة محترمة، وتلميع كل عاهر فني أو سفيه فكري.
4. التاريخ يحذرنا…
ليست هذه المرة الأولى التي تُهزم فيها الأمم من الداخل. التاريخ مليء بالعبر:
- الإمبراطورية الرومانية سقطت حين تفشى الفساد والانحلال.
- البيزنطيون سقطوا بعد أن فقدوا روحهم الأخلاقية والدينية.
- الدولة العباسية، والأموية، والعثمانية، كلها انهارت يوم تخلت عن قيمها، وعمّ الفساد، وسكت العلماء، وغابت المحاسبة.
5. لا نهضة بلا قيم، ولا إنتاج بلا وعي
ما لم تُسترد الكلمة الصادقة، والفن النظيف، والتعليم الأصيل، والقدوة النزيهة، فستبقى كل خطط التنمية الاقتصادية مجرد أحلام على ورق.
فالنهضة
لا تبدأ من الأبراج الزجاجية، بل من القيم والوعي والمعرفة. دروس قاسية، لكنها ضرورية. فلن نستطيع بناء مستقبل اقتصادي مزدهر دون أن نقرأ ماضينا، ونتعلم من جراحنا.
لن يتغير هذا الواقع المؤلم، وهذا الحاضر البئيس، والمستقبل المهدَّد، إلا إذا أيقظنا الضمير الجمعي، وأعدنا الاعتبار لما هو أهم من المال
الوعي:
وعي اقتصادي، يقود إلى تعليم حقيقي، ودين صادق، وأخلاق راسخة، وزراعة وصناعة وإنتاج وإبداع.
حينها فقط، تبدأ رحلة الخروج من التيه، وتعود الأمة إلى مكانها الطبيعي: رائدة، لا تابعة… شاهدة، لا مفعولًا بها
ما يجمع بين هذه النماذج المؤلمة، هو غياب الحكم الرشيد، وتفشي الفساد، والتهميش المتعمد للكفاءة والعلم. .
ثروات مهدورة، شعوب مغيبة، وإدارات فاسدة حولت دولًا غنية الموارد إلى دول فاشلة تعاني من النزوح، الفقر، القتل، والتهجير.