الفترة الإنتقالية؛ الغموض والجمود رغم الجهود المحلية والدولية
كتب – محمد زكريا سليمان
يطغى السكون والجمود على عملية الإنتقال السياسي في السودان عقب الإطاحة بحكم نظام البشير الذي امتد لثلاث عقود، وتشهد العملية السياسية تباينات وإنقسامات شديدة وأحياناً حتى على مستوى الكتل المتحالفة، فالحرية والتغيير اللاعب الأبرز في الملعب السياسي السوداني.
فما بعد التغيير أيضاً هبت عليها رياح الإنقسام فصارت أكثر من فريق، وإنعكست هذه التباينات على المواطن البسيط في شتى مناحى الحياة، فالفراغ السياسي تجسد في عدم وجود حكومة لقيادة المرحلة ويتم تسيير دولاب العمل التنفيذي بوزراء مكلفين لذلك يواجه المواطن بعدة صعوبات في حياته المعيشية، مع تردي الخدمات، وزيادة الجبايات الحكومية، وإرتفاع نسبة التضخم مع فقدان الجنيه السوداني للكثير من قيميه مقابل العملات الأجنبية.
لطالما تغنت مواكب الثورة الشعبية بشعارات الحرية والسلام والعدالة، ولكنها على ما يبدو بعيدة المنال، ومعطيات المرحلة لا تبشر فإطالة أمد الفترة الإنتقالية لا يروغ للكثيرين، وفي الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 أصدر قائد الجيش السوداني قررات حل بموجبها الحكومية المدنية التي كان يقودها الدكتور عبدالله حمدوك، وقد وصفت تلك القررات بالإنقلاب على الشرعية الثورية، فيما وصفها قائد الجيش ومناصروه بتصحيح المسار، والآن بعد توقيع المكون المدني (والذي يمثله المجلس المركزي للحرية والتغيير وحلفائه) والمكون العسكري (المتمثل في قائدي الجيش والدعم السريع) على الإتفاق الإطاري الذي ينهي إنقلاب الجيش على السلطة في السودان، إزدادت وتيرة التشظي والإنقسام.
لقد برزت في الساحة السياسية عدة مبادرات وجهود كثيفة لإزالة الجمود الذي يكتنف العملية السياسية، فبعد إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر نشطت الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، والإتحاد الأفريقي، ومنظمة الإيقاد) لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، وأكدت الآلية الثلاثية أن دورها ينحصر في تسهيل وتيسير الحوار بين المكونات المدنية والعسكرية لإنهاء الإنقلاب العسكري الذي لم يجد سنداً محلياً أو دولياً، وبطبيعة حال المرحلة لم تجد هذه المبادرة الثلاثية الترحيب من عدد من التيارات السياسية، وأبرز الرافضيين التيار الوطني العريض الذي يضم عدد من الكيانات والأحزاب اليمينية بما فيها المؤتمر الوطني الحزب الحاكم السابق.
نظمت الآلية الثلاثية لقاءات مع المجلس المركزي للحرية والتغيير، والحرية والتغيير الميثاق الوطني المنشقة من المجلس المركزي، ولجان المقاومة، ومنظمات المجتمع المدني، والتجمعات المهنية والفئوية، وحزب المؤتمر الشعبي المنضم حديثاً للمشهد السياسي للفترة الإنتقالية رفقة الحزب الإتحادي الديمقراطي الأصل بعد تفاهمات بين المجلس المركزي والجيش لتوسيع قاعدة المشاركة في الفترة الإنتقالية والإنفتاح على مكونات ذات ثقل لإنجاح الإنتقال وصولاً للإنتخابات، وأيضاً شملت لقاءات الآلية الثلاثية أحد تيارات جماعة أنصار السنة المحمدية، وبعض كيانات الطرق الصوفية، وكذا المكون العسكري قبل أن ينسحب من المعادلة السياسية كما أعلن قائد الجيش ذلك صراحة في بيان: بأن الجيش سينأى بنفسه عن التعاطي السياسي وسيعود لثكناته ريثما تتفق المكونات المدنية على تشكيل حكومة كفاءات مدنية لتقود ما تبقى من عمر الفترة الإنتقالية.
على الرغم من المحاولات المتكررة لممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس، إلا أن مجهوداته لم تفلح في ذلك الحين، فبرزت مبادرة جديدة عُرفت بالرباعية (الولايات المتحدة، الترويكا، المملكة العربية السعودية، والأمارات العربية المتحدة)، فنشطت محركات الدفع الرباعي لإنقاذ العملية السياسية من الوحل الذي تقبع فيه، فكانت المغريات تارةً، والعقوبات تارةً أخرى، وكالعادة برزت مجموعات وصفت نفسها بالوطنية معارضة لأي مبادرة دولية أياً كان مصدرها لأنها ترى في ذلك تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية للسودان، وهو بمثابة وصاية إمبرالية مرفوضة بالنسبة إليهم.
في خضم الأزمة المتصاعدة بين المكونات السياسية للظفر بمكاسب في الفترة الإنتقالية، والتحركات المكوكية بين سفراء الرباعية الدولية، خاصة السفير السعودي والبريطاني، قام البيت الأبيض بتسمية جون غودفري سفيراً للولايات المتحدة في الخرطوم بعد أن كان التمثيل الدبلوماسي بدرجة القائم بالأعمال لأكثر من خمسة وعشرين سنة، وهذا التعيين أكسب الرباعية الدولية بريقاً إضافياً فبقدوم السفير الأمريكي ذاد نشاط الرباعية الدولية لتحقيق بعض التقدم في العملية السياسية المعقدة،
مع نشاط المبادرات الدولية كانت هنالك مبادرات محلية ومجهودات من رجال الدين والسياسين والإدارات الأهلية، إلا أنها لم تجد القبول والإستحسان بسبب التصنيفات التي تطلق من الإطراف غير الراغبة فيها، فالبعض وصفها بمحاولات لفلول النظام السابق للعودة للمشهد السياسي متدثراً بالعباءة الدينية أو عبر نافذة الإدارة الأهلية، أو ربما ببعض شركائه وأدواته، ففشلت كل المبادرات المحلية حتى قبل أن يبدأ بعضها في الترويج للمبادرة أو إطلاقها بصورة رسمية، وهذا يعكس بجلاء حالة عدم قبول الآخر التي تسود المجتمع السياسي، ومع تنامي ظاهرة خطاب الكراهية، والتباهي بالقبيلة والإحتماء بها، والتماهي مع المصالح لتحقيق المكاسب تعقدت الأمور وإذداد الوضع السياسي سوءاً، وإنعكس ذلك في حياة الناس اليومية.
بعد التأزم الشديد في الحياة السياسية، وإنسداد الإفق بفشل المباردات المحلية وعدم الترحيب بها، عادت مبادرة الآلية الثلاثية للواجهة من جديد، ولكن برغبة أكيدة من المكون المدني والمكون العسكري بعد تفاهمات ولقاءات تمت بينهما بترتيب من الآلية الدولية، وتم الإعتماد في الحوار على مسودة دستورية تم صياغتها من قبل اللجنة التسييرية لنقابة المحامين السودانيين، ولكن هنالك إتهامات من المناوئين بأنها مسودة مستورة من الخارج عن طريق رئيس البعثة الدولية في السودان فولكر بيرتس الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، على كلٌ سارت المباحثات بين الأطراف التي يقال أنها أصيلة وشريكة في الفترة الإنتقالية للوصول إلى إتفاق ينهي حالة اللادولة التي يمر بها السودان نتيجة لعدم التوافق على تشكيل حكومة تجد الحد الأدني من القبول المحلي الذي يقابله ترحيب دولي كما يتردد في أوساط العواصم الفاعلة في المشهد السوداني والدولي.
تمخضت المباحثات التي ترعاها الآلية الثلاثية، وبمباركة من الرباعية الدولية في ميلاد ما يعرف بالإتفاق الإطاري، والذي تم التوقيع عليه قبل أن يلفظ العام 2022م أنفاسه، وكانت أبرز ملامحه تتمثل في: (تفكيك نظام الرئيس السابق عمر البشير او ما يعرف بنظام الثلاثين من يونيو 1989، والعدالة الإنتقالية وعدم الإفلات من العقاب، ونأي المؤسسة العسكرية عن السياسة، وفترة إنتقالية من 24 شهراً تبدأ من تاريخ تعيين رئيس للوزراء، صياغة الدستور، وإنتهاج سياسة خارجية متوازنة تراعي المصالح السودانية، والإلتزام بإتفاق جوبا للسلام، وتنظيم الإنتخابات في نهاية الفترة الإنتقالية الجديدة)، وأوصت المباحثات بقيام ورش عمل لكل محور من هذه المحاور لبلورة التوصيات وصياغتها في الإتفاق النهائي الذي ربما يتم التوقيع عليه في نهاية شهر يناير من العام 2023م.
أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي مطلقاً
الجارة مصر وبكل أواصر الإرتباط الوجداني والجغرافي بينها والسودان إلا أن مصر الرسمية لم تحرك ساكناً في مياه النيل الذي يجري في شرايين البلدين، ولم تقل حجراً في مقرن النيلين لكسر الجمود الذي كان سيد الموقف في العملية السياسية السودانية، وبعد التوقيع على الإتفاق الإطاري وصار الجميع على بعد خطوة من التوقيع النهائي، حلت طائرة مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل في الخرطوم، وإلتقى بقائد الجيش السوداني وبعض المكونات السياسية معلناً عن المبادرة المصرية للفرقاء للتشاور في القاهرة.
كما كان متوقعاً فصار مصير المبادرة المصرية مثل الذي لاقته سابقاتها من حيث القبول والرفض، وكان الرفض حاضراً من الحرية والتغيير المجلس المركزي المحرك الفعلي للتغيير على نظام البشير، فيرى المجلس المركزي أن لا داعي الآن لأي مبادرة جديدة خاصةً بعد التوقيع على الإتفاق الإطاري، والولوج في الورش المتخصصة للمحاور الرئيسية توطئة للوصول إلى الصيغة النهائية للمسودة الحاكمة لما تبقى من الفترة الإنتقالية، وبالمقابل وجدت المبادرة المصرية قبولاً شديداً من قبل الطرف المناوئ لمركزية الحرية والتغيير أي مجموعة الكتلة الديمقراطية، الذين يعتقدون بأن هذه المبادرة هي المخرج الوحيد لحالة الجمود الذي يعترى الفترة الإنتقالية.
الدور المصري الرسمي يزعج الكثيرين من قوى الثورة الحية كما يرددون ويطلقون على أنفسهم وعلى كياناتهم الثورية، وبخاصة ما يعرف بلجان المقاومة التي توصف بالعنيفة في حراكها، فهي مجموعةٌ شبابية تكون في مقدمة المواكب الإحتجاجية، والتي تقوم بتتريس الشوارع (إغلاق الشوراع وإشعال النيران في الطرقات مما يؤدي إلى الشلل التام في الحياة العامة)، وهي ذات مطالب عالية السقف، فهم شباب في مقتبل العمر لا يكترثون بما لا يتماشى مع أهواء مطالبهم، ولهم إيمان راسخ بإزاحة البشير من سدة الحكم وبالتالي لن يعجزهم من سواهـ لذلك ما زالت مواكبهم تجوب شوارع المدن، فالثورة عندهم حية ومستمرة إلى أن يحققوا ما خرجوا من أجله.
لقد طرح قائد الجيش الفريق البرهان لطرفي الحرية والتغيير (المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية) مبادرة للم الشمل بينهما والتباحث في شأن المبادرة المصرية، إلا أنه فشل في مسعاهـ ذلك صراحة كما أعلن لوسائل الإعلام، فهذا الواقع يؤكد حالة الإنقسام الحاد التي تمر بها البلاد، خاصةً وأن هذه المكونات كانت كيان واحد بمسمى الحرية والتغيير، وبالمقابل المعارضون للإتفاق الإطاري بل الذين لا يرون في الحرية والتغيير شيئاً جميلاً، يراغبون المشهد عن كثب، يأملون فشل كل المساعي والمبادرات، ويعتقدون بأن الحل لهذا الإنسداد يكمن في صندوق الإنتخابات، والذي ترفضه الحرية والتغيير لأنه سيأتي بالنظام السابق من جديد ويشاطرها المجتمع الدولي في ذلك خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الإقليمية الفاعلة في المشهد السياسي السوداني.
الكتلة الديمقراطية للحرية والتغيير والمنشطرة من الحرية والتغيير المجلس المركزي رافضة للإتفاق الإطاري، ومتسمكة جداً بالمبادرة المصرية، ولا ترى فيها تدخلاً خارجياً كما تصف المجلس المركزي بالإستعانة بالخارج لتحقيق المكاسب، وبالمقابل المجلس المركزي وقع على الإتفاق الإطاري ورافض للمبادرة المصرية، وهذا يجسد بجلاء حالة التشاكس والتعاكس التي تسود العلاقة بين المكونات السياسية السودانية، مما يوضح حالة الإنسداد التي تكتسي البلاد، فلا مبادرات محلية تجدي نفعاً، ولا دولية تجد أُذن صاغية، وكل طرف محلك سر، وليس لديه أدنى إستعداد أن يتحرك خطوة نحو الآخر، ولا يخشى مآلات ذلك على الدولة السودانية التي تمر بمنعطف خطير نأمل أن تتجاوزه بسلام.
وفي الأخير؛ مبادرات تطلق، وتيارات سياسية تُعلن عن نفسها، وتحافات تتشكل وآخرى تتكسر، وشوراع تثور، وإذدياد معناة المواطن السوداني نتيجة التهور السياسي، ولا حل يلوح في الأفق، بل يتم إجهاض الحلول قبل أن ترى النور، فمغانم الفترة الإنتقالية قد تحدد معالم المرحلة التالية، لذلك الجميع متمسك بكعكة السلطة، فعلي وعلى أعدائي، ولا يهم إن كان المواطن يعاني…