
شبكة مراسلين
بقلم: الدكتور أحمد أحمد
بعد مرور أكثر من عام على هذه المجزرة المستمرة في قطاع غزة والآن في جنوب لبنان ما هي المسارات المتوقعة خلال عام ٢٠٢٥؟
لا يملك أحد منا علم الغيب ولكنه استقراء للوقائع بناءً على فهم مواقف جميع الأطراف، أهدافها، آمالها، مواطن القوة والضعف التي تملكها. سأطرح هنا تصورين أحدهما للمسار الأكثر قتامة وآخر عملي ممكن الحدوث ويُعد رغم فداحة ثمنه نصراً وتثبيتاً لفكرة المقاومة ورفض الرضوخ والتطبيع.
المسار الأول: سأبدأ بالمسار الأكثر قتامة حيث أنه مع استمرار الضغط العسكري الهائل في غزة وتنفيذ خطة الجنرالات في شمال القطاع مع إجبار السكان على النزوح جنوباً، وقتل من يرفض ذلك مع حصار خانق لكل من هم تحت الأرض في الأنفاق، مما سيؤدي إما إلى استشهادهم داخلها أو خروجهم للمقاومة مع قتلهم عبر استخدام المسيرات والقصف المدفعي والصاروخي المكثف دون التحام مباشر مع قوات الاحتلال فيتم الإجهاز على أكبر عدد من المقاومين بأقل الخسائر في صفوف جنود الاحتلال.
في حال حدوث مثل هذا المسار بنجاح في شمال القطاع سيتشجع الاحتلال أن يكرره في مناطق أخرى في قطاع غزة، مع استمرار تصفية معظم رجال المقاومة وتدمير سلسلة القيادة والتنسيق بالكامل، مما يؤدي إلى انتهاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي بمفهومها المعروف كتنظيم يملك قيادة عسكرية أو سلطة إدارية مدنية في قطاع غزة وإن بقي مئات أو عدة آلاف من الأفراد غير المنضوين تحت قيادة واضحة توجههم، كل هذا وذاك سيفتح الباب أمام إسرائيل لأن تعيد احتلال كامل القطاع بأريحية أكثر واقتطاع أجزاء منه لأغراض عسكرية واستيطانية، واستمرار الحصار الخانق بشروط إسرائيلية مع تشجيع تهجير السكان إلى دول أخرى بحجة الدعم الإنساني، ومن بعد ذلك تقود التفاهمات الإقليمية إلى وضع جديد في القطاع بإشراف إسرائيلي عربي مشترك بمشاركة من السلطة الفلسطينية أو دونها لمنع صعود أي حراك مقاوم ولمدة زمنية طويلة مع بقاء الوعود الدولية بقيام الدولة الفلسطينية بعد بناء إجراءات الثقة على مدار سنوات، ستمتد إلى عقود قادمة كما حدث بعد وعود اتفاق أوسلو، تستمر خلالها إسرائيل بالتحكم بكل شاردة وواردة داخل القطاع مع التدخل العسكري متى وكيفما وأينما شاءت.
بالتوازي مع هذا المسار يتم تشجيع تغول المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية لتهجير أكبر عدد منهم طوعاً أو قسراً، مع بناء نموذج حكم محلي، بعد تعديل الصيغة الحالية للسلطة الفلسطينية أو إنهائها، لا يرقى حتى إلى مستوى حكم ذاتي، وتعميق السيطرة العسكرية والاستخبارية في جميع مناطق الضفة وإنهاء تصنيفات مناطق ألف وباء وجيم مع ضم قسم كبير من المستوطنات وغور الأردن إلى السيادة الإسرائيلية الكاملة مما يؤدي إلى وأد فكرة الدولة الفلسطينية، فتتحول مطالب الفلسطينيين إلى مجرد كيفية البقاء والحصول على مكاسب اقتصادية وحرية للحركة دون الالتفات إلى مواضيع مثل السيادة والحدود والقدس وعودة اللاجئين وشكل الدولة الفلسطينية.
بالقياس على النجاح الإسرائيلي عبر هذا المسار في الضفة وغزة فإنه قد يتوازى معه نجاح مماثل في لبنان، حيث تحت استمرار الضغط العسكري الهائل وربما احتلال الجنوب اللبناني حتى مشارف صيدا، واستمرار نزوح أكثر من مليونين لبناني طوال فترة الشتاء، وتعميق الأزمة الاقتصادية، وضغط كافة الأطراف اللبنانية على حزب الله من أجل إنهاء العمليات القتالية والقبول بالقرار الأممي ١٧٠١، مما يعني ضمناً انسحاب مقاتلي الحزب شمال الليطاني ونزع السلاح الثقيل شاملاً القوة الصاروخية على كافة الأرض اللبنانية استكمالاً لتنفيذ بنود اتفاق الطائف، مما يحول حزب الله إلى حزب سياسي بحت يتقاسم مع حركة أمل تمثيل مصالح الشيعة اللبنانيين، مع وجود مليشيات تابعة له مجهزة بأسلحة خفيفة تحفظ ما تبقى من هيبته في الداخل اللبناني بينما لا تشكل أي تهديد للدولة العبرية.
كل هذه التغيرات في حال حدوثها وبحدوث قصف إسرائيلي لمواقع حيوية داخل إيران أو بدونه فإنها ستجبر إيران على تقديم تنازلات فيما يخص برنامجها النووي وتقليل أثرها وتدخلها في المنطقة ككل بعد فقدان أهم أوراق ضغطها وقد تقودها التفاهمات الإقليمية الجديدة إلى مغادرة القوات الإيرانية للأراضي السورية مما سيفتح الباب إلى تقارب سوري خليجي واستثمارات خليجية لإنعاش الاقتصاد السوري المنهار بشكل يتناسب طردياً مع التباعد بين النظام السوري وإيران.
كل هذا وذاك سيسرع وتيرة التطبيع الرسمي العربي مع إسرائيل بحيث يشمل معظم الدول العربية إن لم يكن جميعها وبدرجات متفاوتة، ويعطي إسرائيل اليد الطولى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في جميع المنطقة.
هذا المسار الذي يبدو قاتماً جداً ممكن الحدوث، وعندها لا نعلم عدد السنوات التي ستمر عليه قبل أن يحدث طوفان جديد على الصعيد الفلسطيني أو العربي يرفض هذا الخنوع ويزلزل المنطقة من جديد.
المسار الثاني: استمرار القصف الهمجي وتنفيذ خطة الجنرالات دون تحقيق أهدافها، حيث تستطيع المقاومة الانتقال عبر شبكة الأنفاق من منطقة يتم حصارها إلى منطقة أخرى غير محاصرة مع استمرار الصمود حتى في المناطق المحاصرة وعدم قدرة جيش الاحتلال على إحكام السيطرة على الأرض، واستمرار تشبث الفلسطيني بأرضه في قطاع غزة، واستنزاف القوات الإسرائيلية بكمائن يومية ضد الأفراد والآليات مما يوقع عدداً كبيراً من القتلى والجرحى خلال مدة شهور تمتد إلى صيف ٢٠٢٥ مع تدهور مستمر في الاقتصاد الإسرائيلي وانعدام وجود صورة انتصار حاسم في الأفق، وحدوث نفس الشيء على الجبهة اللبنانية دون تحقيق انتصار واضح وغياب التمكين على الأرض لقوات الاحتلال في جنوب لبنان مع انتهاج سياسة إطلاق الصواريخ على مدن كبيرة مثل حيفا وهرتسليا ونتانيا وتل أبيب وليس فقط على القواعد العسكرية والمستوطنات الخالية في الجليل، عندها تحت ضغط الصعوبات الاقتصادية وانعدام الأمن الشخصي وعدم الثقة بإمكانية الحسم ضمن أشهر قليلة سيتضاعف الضغط الشعبي على الحكومة الإسرائيلية بقبول هدنة تؤدي إلى وقف هذه الحرب، والتي لن تكون شروطها على هوى الإسرائيلي بالرغم من تحقيقها لبعض طلباته، وبالمقابل لن تؤدي إلى إهلاك المقاومة وإطفاء شعلتها، فإنها وإن كانت قد ضعفت وأنهكت فإنها لا تزال كالجمر المتقد مستعد للاشتعال في أية لحظة، ثابتة على أرضها، فتصبح هذه الحرب الضروس على ضراوتها حلقة أخرى كالتي سبقتها ضمن هذا الصراع الطويل. هذا البقاء سيجعل من إعادة الإعمار وتضميد الجراح أبطأ من المأمول كون الأشقاء قبل الغرباء يأنفون أن يمدوا يد العون السخية إلى الجهة التي كشفت سوأتهم بل سوآتهم خلال هذا النزال المرير.
بالطبع هنالك العديد من الاحتمالات الأخرى الهجينة التي تجمع ما بين الحسم في بعض الأمور والخسارة في مواضع أخرى لهذا الطرف أو ذاك، فليس بالضرورة تحقق أي مسار بكامله وعلى جميع الجبهات.
عزيزي القارئ، ليس المهم ما تتمناه وانزعاجك من مجرد التفكير بإمكانية حدوث هذا المسار أو ذاك، بل الأهم هو ماذا صنعت وبماذا ساهمت لتستحق رؤية المسار الذي تتمناه؟