من الحماقة إلى الانهيار: كيف تُدفن الإمبراطوريات تحت خطايا حُكّامها؟

مقال بقلم: محمد سعد الأزهري
التاريخ يُعيد نفسه، ليس كنسخة طبق الأصل، بل كدرس مرير يُذكِّرنا بأن النهايات الكبرى للدول تبدأ غالبًا بشرارة صغيرة من الغرور أو الجهل. فما إن تترسخ الإمبراطوريات بقوة السيف أو الإرث، حتى تتحول إلى فريسة لحُكّام جُدد يهدرون مكاسب الأجداد، ويستبدلون الحكمة بالتهور، والسياسة بالعبث، ليُدفن مجد قرون تحت ركام القرارات الفادحة.
في التاريخ القديم شواهد ودروس لصانعي نهضات الأمم وبناة حضارتها أو حراس إرثها بدلا من أن يُصغي الحُكّام لغرورهم لا لصوت التاريخ.
• الإمبراطورية الرومانية:
بعد قرون من الهيمنة، تحولت روما من “أم الحضارات” إلى مسرح للفوضى تحت حكم أباطرة مثل نيرون، الذي أشعل النار في روما ليتسلى، وكاليجولا الذي حوّل السلطة إلى لعبة جنونية.
لم تكن الجيوش الغازية سبب الانهيار، بل انهيار القيم التي بُنيت عليها الإمبراطورية.
• وفي الدولة الأموية
أسس معاوية بن أبي سفيان إمبراطورية مترامية الأطراف، لكن الصراعات الداخلية والانغماس في الترف تحت حكم خُلفاء ضعاف مثل الوليد الثاني ،سرّعت من سقوطها، لتبدأ صفحة جديدة بدماء العباسيين.
وفي التاريخ الوسيط حين تُخفي الثروات أمراض النخبة
• الدولة البيزنطية:
إمبراطورية امتدت لألف عام، لكن إهمال الإصلاحات العسكرية والاقتصادية، وتفشي الفساد تحت حكم أباطرة مثل -أندرونيكوس الأول- ، جعلها عاجزة عن صد جيوش العثمانيين.
• إمبراطورية المغول:
بعد موت -جنكيز خان-، تحولت أكبر إمبراطورية في التاريخ إلى دويلات متناحرة، إذ فضّل خُلفاؤه الثراء والصراعات الداخلية على استمرار الرؤية الاستراتيجية.
• وفي العصر الحديث:
الاستعمار وحماقة التعالي
– الإمبراطورية البريطانية: “الشمس التي لا تغيب”
غربت عندما أصرّت بريطانيا على سياسات الاستغلال في الهند وإفريقيا، متجاهلةً مطالب الاستقلال، حتى تحولت من قوة عظمى إلى دولة عادية بعد حربين عالميتين منهكتين.
– الاتحاد السوفيتي: انهار العملاق الأحمر ليس بسبب القوة الأمريكية، بل بسبب بيروقراطية متصلبة وحملات عسكرية فاشلة مثل غزو أفغانستان، التي كشفت هشاشة نظام اعتقد نفسه منيعًا.
الدرس المُعاصر: إسرائيل وترامب.. هل نسيَ التاريخ دروسه؟
1. إسرائيل: تُكرر الدولة العبرية خطأ الإمبراطوريات القديمة: الاعتقاد بأن القوة العسكرية المطلقة تُبطل حقائق التاريخ والجغرافيا. فاستيطان الأراضي الفلسطينية وقتل المدنيين وتجاهل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني لا يختلف عن غرور روما أو بيزنطة. فالشعوب لا تختفي، وحقوقها لا تُدفن تحت الجدار العازل.
2. ترامب وسياسة “أمريكا أولًا”:
بانسحابه من الاتفاقيات الدولية (كمناخية باريس، الاتفاق النووي الإيراني)، وتقويض التحالفات العسكرية (الناتو)، واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، حوّل ترامب السياسة الخارجية إلى أداة عبثية قصيرة النظر. فـ”الزلزلة المُتعمدة” للنظام الدولي تشبه إهمال الإمبراطوريات لقواعد اللعبة التي ضمنت استقرارها.
الشرق الأوسط وإفريقيا: حيث تُدفن الدماء تحت رمال السياسة
– ما تفعله دول مثل السعودية (بحرب اليمن) أو تركيا (بتدخلاتها في سوريا وليبيا)
أو الإمارات في السودان واليمن وأفغانستان وسوريا والصومال وغيرها، ليس سوى تكرار لخطأ الإمبراطوريات، الاعتماد على القوة النارية وتجاهل كلفة الدم البشري.
أما في إفريقيا، فالحروب الأهلية في دول مثل السودان وجنوب السودان تُذكّرنا بأن الاستبداد والفساد هما الوقود الدائم لانهيار الدول.
• التاريخ قاضٍ لا يرحم
الدرس الوحيد الذي تقدمه الإمبراطوريات الساقطة هو أن “القوة” وحدها لا تصنع حضارة، وأن تجاهل حقوق الإنسان والشعوب يُحوّل الدول إلى غول يأكل نفسه. فما تقوم به إسرائيل من تهجير، أو ما مارسته حكومة ترامب من تفكيك للمنظومة الدولية، ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة الحماقات التي تنتهي دائمًا بصرخة أخيرة:
“لقد حذّركم التاريخ، فلم تسمعوا!”.
• صحوة الشعوب:
التحولات الجيوسياسية وصعود جيل المقاومة في مواجهة الاستبداد والاستعمار في عصر تشهد فيه المنطقة العربية والأفريقية تحولات جذرية، تبرز قصص صمود شعوب رفضت الخنوع لأنظمة استبدادية دعمتها قوى استعمارية لعقود. من تونس إلى اليمن، ومن سوريا إلى غزة، تشكلت انتفاضات أعادت تعريف مفهوم المقاومة، مدعومة بجيل جديد لم يعد يقبل بالهيمنة أو الإذلال.
1. تفكك القبضة الحديدية:
تحولات جيوسياسية وتضاريس سياسية جديدة
شهدت السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في سيطرة الأنظمة الاستبدادية من مصر إلى العراق، مرورًا بليبيا وسوريا، حيث أدت الاحتجاجات الشعبية والثورات إلى إعادة رسم الخريطة السياسية. لم تكن هذه التغيرات وليدة الصدفة، بل نتاج تراكمات تاريخية من القمع والإفقار، إلى جانب ضعف النخب الحاكمة التي فشلت في مواكبة مطالب الشعوب. وفي الجانب الأفريقي، بدأت دول مثل السودان تشق طريقها نحو التحرر من الأنظمة العميلة، مدفوعة بوعي جديد رفض التبعية. لولا ما حدث من التدخلات الخارجية التي فتحت على البلاد أتون الحرب الأهلية لا لشيء سوى الاستيلاء على ثرواتها وخيراتها والقضاء على كل مظاهر النهوض والوحدة وتفكيك البلاد إلى عرقيات ووضع بذور الثأر والانتقام مما تفعله الميليشيات المأجورة.
2. جيل ما بعد القهر: التعليم والوعي وقود الثورة.
برز جيلٌ شبابي تلقى قسطًا من التعليم والتأهيل، بعيدًا عن ثقافة الخوف التي عاشها الآباء. هؤلاء الشباب، الذين لم تُطح بهم آلة التعذيب الأمنية، حملوا لواء التغيير عبر منصات التواصل الاجتماعي والمبادرات المدنية، مشكلين نخبًا سياسية واعية استطاعت تفكيك خطاب السلطات الدعائي. يقول الناشط التونسي “أحمد المرزوقي “تعلمنا أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع”.
3. غزة.. من الحصار إلى صناعة المعجزات العسكرية
باتت غزة نموذجًا فريدًا للمقاومة الابتكارية. رغم الحصار الإسرائيلي المدعوم غربيًا، استطاعت كتائب القسام تطوير أسلحة محلية مثل صواريخ “اليرموك” وأنظمة الاستطلاع الإلكتروني، مما أربك أجهزة المخابرات الإسرائيلية والأمريكية. وفقًا لتحليلات عسكرية، فإن التكتيكات الميدانية للمقاومة في معارك مثل “سيف القدس” (2021) أجبرت أكاديميات الحرب العالمية على مراجعة استراتيجياتها.
4. سوريا: من ثورة إلى تحرير.. جدل الدعم الخارجي وتحديات البناء
رغم الجدل حول تدخلات خارجية في الصراع السوري، استطاعت فصائل المقاومة – بدعم من محور المقاومة – تحقيق انتصارات غير متوقعة ضد نظامٍ وُصف بـ”الأشرس عربيًا”. اليوم، تتحول دمشق إلى رمز لـ”طوفان الأقصى”، وفقًا لخطاب القادة الميدانيين، ما يضعها في قلب معادلة إقليمية جديدة.
5. الدروس المستفادة: هل تُصدر النخب العربية أفكار غزة؟
تُطرح تساؤلات عما إذا كانت النخب السياسية المعارضة في الدول العربية قادرة على تبني نموذج “حماس” في الجمع بين المقاومة والإدارة. فحركة المقاومة الإسلامية لم تكتفِ بالعمل العسكري، بل طورت بنية تحتية تعليمية وصحية موازية، مما أكسبها شرعية شعبية. هنا، يحذر الخبير الاستراتيجي “د. علي عبد الخالق” من اختزال التجربة في البعد الأمني فقط: “التحدي هو بناء دولة داخل الدولة، وهو ما يتطلب كفاءة نادرة”.
التاريخ يكتبه المنتصرون.. فمن سيكون التلميذ المجتهد؟
بينما تُختتم هذه المرحلة من الصراع، يبدو أن الشعوب العربية والأفريقية بدأت تدرك أن التحرر الحقيقي يبدأ بامتلاك أدوات القوة: من التعليم إلى الصناعة العسكرية. والسؤال المطروح الآن: هل ستستفيد النخب من دروس غزة ودمشق، أم ستكرر أخطاء الماضي؟ وكما قال الشهيد “محمد الدرة” يوماً: “الثورة ليست حدثًا، بل عملية ولادة جديدة”.