مقالات

مهرجان الحنفية

بقلم -مهندس/ يحيى حسين عبد الهادي

أحياناً وبلا سببٍ مفهوم، يقفز إلى ذهنك عملٌ فنِّيٌ مُعَيَّنٌ (أغنيةٌ أو فيلم أو مسرحية) وأنت تشاهد أو تشارك في فعاليةٍ ما .. حدث ذلك معي منذ أيامٍ وأنا أُتابع مهرجان توزيع كراتين الخير على فقراء مصر في الاستاد .. إذ قفز إلى ذهني بغير تفسيرٍ فيلمُ التقرير .. للدرجة التي شغلتني عن متابعة الفعالية الخيرية المُذاعَة.
التقرير المقصود في عنوان الفيلم لا علاقة له بتقرير الستمائة مليار جنيه المنسوب للمستشار هشام جنينة .. والذي كان الطلقة الأولى في سنواتٍ من معاناة الرجل انتهت بفضل الله بعودته لبيته منذ شهر .. وإنما التقرير المقصود لموظفٍ آخر اسمه عزمي بك.
التقرير فيلمٌ من روائع السينيما العربية عُرِضَ منذ أكثر من ثلاثين عاماً عن قصة الكاتب السورى الراحل محمد الماغوط وإخراج وبطولة الفنان المثقف دريد لحام وآخرين.
الفيلم يحكي قصة عزمى بِك وهو موظفٌ حكومىٌ نظيفٌ يشغل وظيفة المستشار القانوني بإحدى المؤسسات الحكومية في دولةٍ لم يحددها .. وهو بِحُكم موقعه مسئولٌ عن مَنْحِ التصاريح للمشروعات المُقامة على أراضى الدولة .. الرجلُ قمةٌ فى الاستقامة والنزاهة والضمير الحي وحب الصالح العام .. لا يُحابى ولا يُجامل ولا يتكسب ولا يستجيب للضغوط .. عندما سألته سكرتيرته (رغدة) مِن أين يأتي بهذه القوة والصلابة في مجابهة الفساد، أجابها (وَاهِمَاً) أنه مِثْلُ لبنان تكمن قوَّتُه في ضعفه .. فهو غير مدعومٍ من أى جهةٍ في الدولة لتحارب الجهةَ الأخرى في شخصه الضعيف، وأن ما يحميه في هذه الحالة هو إخلاصه الشديد في العمل وللصالح العام .. تستمر أحداث الرواية تروى مواقف كوميدية تمثل إهداراً للمال العام وغياب العدالة .. إلى أن تأتي الحادثة الكبرى التي تطيح بالمستشار .. مشروع الحَنَفِية .. وهو عبارة عن ماسورة مياهٍ تنتهى بصنبورٍ صغير في وسط أرضٍ فضاء في موقعٍ متميزٍ .. أُقيم احتفالٌ كبيرٌ في افتتاح المشروع أُطلِق عليه (مهرجان الحنفية) .. رفض عزمى بك التوقيع على ميزانية الاحتفال بمشروع الحنفية عندما وجد أن ميزانية الاحتفال بالمشروع تصل إلى ضعف ما تم إنفاقه على المشروع نفسه! .. فوجئ بفرقةٍ موسيقية من العازفين تدخل عليه مكتبه تطالبه بصرف مستحقاتهم عن دورهم في مشروع الحنفية، فسألهم عزمى بك مندهشاً (وما دوركم في مشروع الحنفية؟) فأجابه كبيرهم نَصَّاً (التطبيل للحنفية!) .. تزايدت الضغوط عليه واتضح أن الحنفية مجرد واجهةٍ لمشروعِ فسادٍ متكاملٍ لبناء مول الحنفية وفندق الحنفية .. إلخ.
وساءَه أكثر أنه لما ذهب إلى أرض المشروع وجد الحنفية قد سُرِقت جلدتها بعد يومٍ واحدٍ من الافتتاح .. ولما اندهشت سكرتيرته من إعطائه موضوع الحنفية أكثر مما يستحق، أجابها (إن الحنفية منزوعة الجلدة كفيلةٌ بأن تشفط المياه المتجمعة خلف السد .. وأن من يُفَرِّط في حنفيةٍ يُفَرِّط في بلد) .. ومع تصاعد الضغوط اضطُر لتقديم استقالته ظناً منه أن ذلك سيلفت نظر الإدارة العليا في الدولة، لا سيما وأنَّه من المؤكد أن رؤساءه لن يقبلوا استقالته لاحتياجهم لكفاءته .. الذى حدث عكس ما تَوَهَّم، إذ قُبِلَت استقالته على الفور ولم يهتز أحدٌ في الدولة، بل تم على الفور تعيين موظفةٍ مغمورة محدودة الكفاءة مكانه لا يهمها سوى مصالحها الشخصية .. فقامت بالتوقيع على كل المعاملات التي رفضها من قبل .. فقَرَّر عزمي بك كتابة تقرير شاملٍ مُدَعَّمٍ بالصور عن كل ما رآه من مهازل يومية أثناء خدمته لتقديمه للجهات العليا (التي كان مؤمناً بأنها من المستحيل أن توافق على هذا الفساد) .. وعندما انتهي من كتابة التقرير أَعَدَّ خُطبةً عصماء يقولها لكل مسئولٍ وهو يسلمه التقرير، خَتَمها بقوله (لو استمر الحال على هذا المنوال يا سيدى سيصبح البلد علَى العظم .. عَظَّمَ اللهُ أجرَك) .. ولما تَأهَّب للذهاب للمسئولين عرف أنهم جميعهم في ملعب كرة القدم يحضرون مباراةً مهمةً .. فتَوَجَّه إلى الملعب وطلب من الحَكَم وقتاً مستقطعاً لأهمية الأمر .. لكن الحَكَم تجاهله وداسته أقدام اللاعبين حتى الموت دون أن يهتموا به .. بينما تطايرت أوراق التقرير في الهواء .. وظلَّت الحنفية بلا جلدة!.

خاص - مراسلين

شبكة مراسلين هي منصة إخبارية تهتم بالشأن الدولي والعربي وتنشر أخبار السياسة والرياضة والاقتصاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
wordpress reviews